سهام القحطاني
كان إغلاق شبكة قناة الجزيرة والمحطات التابعة لها من ضمن مطالب الدول المقاطعة لقطر، لكن هذا الطلب قوبل برفض شديد كغيره من المطالب، وهو رفض له مبرراته القوية.
فالجزيرة ليست مجرد قناة بالنسبة لقطر، بل هي -كما تعتقد - مصدر قوتها وهويتها السياسية؛ فلولا الجزيرة لظلت قطر فعلاً مبنيًّا للمجهول.
وقبول إغلاق القناة يعني فقدان قطر - أيضا كما تعتقد أو كما يقال لها -، وهو تدمير لقوتها وهويتها، التي - كما تزعم - هي الاستقلال والحرية واحترام الشعوب العربية.
كما أن الموافقة على إغلاقها يعني «تفرّق» المافيا التي تستمد منها قطر قوة الشر أمثال: «الإخوان، والمرتزقة من الإعلاميين، ومؤيدي سياسة الشر كإيران وحزب الله».
وهو ما يعني - كاستنتاج منطقي - أن الجزيرة بالنسبة لقطر ليست مجرد قناة، بل هي الوجه الآخر لها.
كما أن هذا الرفض جعلنا نقف أمام سؤال: لماذا خسرت قطر الدول الأربع مقابل المحافظة على قناة الجزيرة وحمايتها؟
إن صاحب الشر بطبعه «جبان»؛ لذا يظل يبحث عن قناع وقفازات يخبئ من خلالهما أدلة الاتهام، لكن تظل المصلحة والفائدة هي القرينة التي لا يمكن تزييف ملامحها أو بصماتها. وهذا ما فعلته قطر؛ إذ صدّرت الجزيرة لتقوم بمهمة «القاتل المأجور».
وهذا الواقع متفق عليه من قِبل كل متابع للجزيرة ومطلع على تاريخ قطر السياسي، وهو واقع يُزيل الاعتقاد بأن قناة الجزيرة تعمل دون أجندة سياسية لمصلحة ترسيخ قيم «الرأي والرأي الآخر» أو لمصلحة الشعوب العربية كما تزعم.
ففساد أي اعتقاد هو المثالية التي تحيط الأشياء بطهارتها من أي أيديولوجية.
لأن الأيديولوجية هي التي تصنع مواقفنا من الأشياء، أو ما يُمكن تسميته «مؤشر الغاية»، كما أنها هي الضامن الاستثماري للأشياء؛ لذا لا يمكن أن يكون هناك فكر أو سلوك بعيدًا على مؤشر الغاية وضامن الاستثمار.
وقطر هي التي تتحكم في هذين البعدين لقناة الجزيرة، سواء بفهم واعٍ بتكوين التجربة أو مستفيد من النتائج.
أصبح اليقين الذي لا يقبل الشك أن قطر تستمد قوتها السياسية من قناة الجزيرة، أو هكذا قد تتوهم؛ فقد «اعتقدت ذات يوم أنها بقناة الجزيرة ستكون دولة كبيرة، وبعضهم حسّنها أكثر، وقال إنها على موعد لتكون دولة عظمى، يدها فوق أي يد أخرى، ونفوذها نافذ على من تختارهم من الدول» -73-. وهو ما جعل الجزيرة بالنسبة للسياسة القطرية قيمة وجود. لكن قيمة الوجود - كما هو متعارف عليه في الطبيعة السوية - «الإنجاز والتاريخ»، وفي غياب المصدر السوي لتشكيل قيمة الوجود يكون الطريق الآخر الشر.
فالشر قوة في ذاته؛ لذا سعت قطر من خلال قناة الجزيرة إلى هذا المنهج الذي اعتمدت عليه لجذب الأفكار التي تتوافق مع الإطار الفكري لأيديولوجية القناة، وقبلها السياسة القطرية، وهي صناعة الفتنة والعبث باستقرار المجتمعات الخليجية خاصة، والعربية عامة.
لذا نجد أنها أصبحت بيتًا لكل متطرف وخارج على مجتمعه. وهذه النوعية من البشر وما تحمله من أفكار هي التي تنبني فوقها قوة السياسة القطرية، أي من خلال استقطاب «الإخوان المسلمين وحزب الله لاستخدامهم عند الطلب، مثلما تفعل قناة الجزيرة التي تستنجد ببعض الإعلاميين العرب المرتزقة لرفع الصوت عاليًا، ونشر الأكاذيب، على كل ما هو حقيقي في سياسات الدول الخليجية»-21-.
وهي بهذا المسار أصبحت قطر - كما يقول الأستاذ خالد المالك - «تتبنى المواقف المضادة لمصالح العرب»-21-.
والمسار ذاته حولته قطر إلى أيديولوجية ثابتة لها، تنفذها من خلال قناة الجزيرة التي أصبحت صدى «لكل الأبواق المسعورة» -59- التي تسعى إلى تدمير المجتمع الخليجي، و»تخريب علاقات قطر مع أشقائها»-66-.
وهي الغاية نفسها التي تقصدها إيران والإخوان المسلمون وحزب الله، الذين حولتهم قطر مع شيطانها الأكبر «عزمي بشارة» بتمويلها المالي إلى قنوات ظل بجوار القناة الأم الجزيرة لتوسيع مساحة التأثير، الذي توحدت غايتهم في تدمير الوحدة الخليجية، والتشجيع على التحريض، والعبث بسلمية المجتمعات العربية، عبر التمويل القطري.
إن قناة الجزيرة تملأ الفراغ السياسي الذي تعاني منه قطر بسبب تكوينها الجغرافي الذي كانت نتيجته اختزال الدولة في قناة، وتحويلها إلى مصدر لصناعة الشر.
فقطر «دولة صغيرة، لا تكاد العين ترى تفاصيلها في خارطة العالم، ولا تفرق بينها وبين قناة الجزيرة؛ فأحيانًا تقول إن القناة هي الجزيرة، وأحيانًا أخرى تظن أن قطر هي الجزيرة، كل هذا لأن دولة قطر ضيعت مشيتها، وتصرف نظامها بما همشها، واستمرأ ذلك، بما جعله يدفع إلى الاختزال». -421-.
وَهْم الخوف هو الذي يدفع الأشخاص أو الدول إلى الاحتماء بأعداء أعدائهم من باب «عدو عدوي صديقي». هذا ما رسمت قطر سياستها في ضوئه: الاحتماء بأعداء دول الخليج، وتحويلهم إلى أصدقاء ومصدر حماية.
فجمعت حولها الإخوان المسلمين أصحاب التاريخ الأسود من التخلف والإرهاب، والمارقين، ثم حزب الله وإيران، وتركيا، وغيرها من الكيانات «والتنظيمات التي فُتحت لهم أبواب قطر، وجاؤوا من كل حدب وصوب، ينشرون الفكر النتن، ويتبنون العمليات الإرهابية، ويسوقون التطرف، ويأخذون بمبدأ التحريض للوصول إلى إنجاح مخططاتهم» -421-.
كل ذلك يجري تحت مرأى ومسمع من الأمير القطري الذي «لا يحرك ساكنًا مؤيدًا لما يقوله ويروجه المتآمرون في قناة الجزيرة التي لوثت المنطقة الخليجية والعربية بما جعل من قطر (مكبًّا) لقاذوراتها الإعلامية» -421-. ولا ترى السياسة القطرية أي عار أن يتحول وطنها إلى «مكب إعلامي لقاذورات المارقين» ما دام في نهاية الحكاية ستصبح -كما تتوهم - الدولة العظمى في المنطقة.
لكن الرؤية الواضحة للجميع، والغائبة عن القصر القطري الكاشفة عن حقيقة المارقين والإرهابيين والمرتزقة المحاصرين لعقيدتها السياسية أن نوايا وأهداف تلك الكيانات الخفاشية تخطط «لعزل قطر عن محيطها العربي وأشقائها الخليجيين، وتركها في نهاية الأمر إلى قدرها المجهول» -82-.
كما أن وقوع قطر - بكامل إرادتها - بين مخالب من يدير قناة الجزيرة وعزمي بشارة والإخوان والأحزاب الإرهابية (حزب الله وحماس) وتبنيها أفكارهم لتعظيم دورها، وليس لقيمة تلك الأفكار.. وهذه النرجسية بالعظمة الزائفة هي التي حولت قطر تدريجيًّا بالنسبة للدول الخليجية إلى داعم للإرهاب، ومستضيف لكياناتها العدائية لدول الخليج، ومصدر لصناعة الشر.