جاءتني رسالة من (حبيبنا) وأحد وجهاء بريدة (الأستاذ صالح بن عبدالله التويجري) وهو ينعى رجلاً كبير القدر.. قبل العمر، فحواها: «انتقل إلى رحمة الله العم/ عبدالله بن إبراهيم التويجري عميد أسرة التويجري. تغمده الله بواسع فضله، وأسكنه فسيح جناته، وعوضنا فيه خيرًا. الصلاة عليه بعد صلاة العصر هذا اليوم السبت بمسجد الراجحي بالرياض».
والله -بلا اختياري- أخذني بناني لأملي إزاءه -يرحمه ربي- في هذه الزاوية عن هذا الفقيد العزيز.
عُرف الشيخ «أبو إبراهيم» بالعصامية، أقصد أخذه للحياة بجدية عجيبة؛ فبالرغم مما أفاء الله عليه من خير فهو لم يتغير (نمط) معاشه ومحياه؛ ربما لأنه كان من ذاك الرعيل الذي امتهن من مطلع عمره، حتى بلغ ما يصبو، ثم امتد على ما كان عليه.. إذ اصطبغت به كـ(منقبة)، لا يتنازل عنها؛ فكان شظف العيش.. هو ذاته يوم أبدل بعد العسر يسرًا لم يدع للمال فرصة للسكون، أو ينحو إلى التراخي؛ لأن من شب على شيء فـ(أوصله إلى نجعة الفلاح) لا يدعه، بل يعض عليه بالنواجذ. وهذا - لعمري - نجدة الحصيف؛ فتلكم (يا أحباب) أهم وجوه تربية النفس وأطرها عن الدعة التي أتت على أقوام فما حمدوا عقباها، بل (ربما) قلبت بهم ظهر المجن (الحال) إلا ما شاء الله، وكذا الأحوال.. إلا إن ساعف لطف ربهم بهم. فـ(العمل) ليس بغيته جمع المال.. بقدر ما ذاك أحد دوافعه، وإن كنا لا نأتي بمعلومة جديدة إن وطئنا بالمنسم على أنه أهم تلكم الدوافع.. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} [سورة الملك].
فقدم العمل على الأكل؛ لأنه لا أكل قبل عمل، كما لن تحصد قبل أن تزرع، بخاصة في استغلال مواسم البذر (بواكير العمر):
إذا أنت لم تزرع وألفيت حاصدا
ندمت على التفريط في زمن البذر
وأي (ندم) ستراه عما قريب وهو يجرح أعماقك جرحًا غائرًا.. واسأل من سبقه أقرانه عما طاله من عض أنامل على ما فرط في جنب نفسه! بخاصة يوم نام وهام خلف رغائبه...!!
لكن العمل لو أعملت عقلك لأدركت بُعدًا أعز وأطول مرامًا، إنه هو تحدٍّ للذات وأطر النفس عن المضي (فرطًا) خلف المشاهي والملذات!
تيسر لي صحبة الفقيد الكبير على فترة غير متوانية، فكنت أرى في جدوله شيئًا عجيبًا؛ إذ يفيق قبيل الفجر.. حتى في أيام العطلة؛ لينال حظ النفس من الحركة وربما الرياضة، وأخذ أنفاس الصباح الصافية الملهمة كل جميل، وفي استنشاق (البكور) الذي يبـعث داخلنا ما قل أن يعيه غالب أهل عصرنا.. وهو ما لا يعوض، كيف لا! والفقيد يعي كثيرًا: (بورك لأمتي في بكورها). صدق المربي العظيم صلى الله عليه وسلم.
رحل الشيخ «عبدالله بن إبراهيم التويجري» وقد بلغ من العمر مبلغًا، نحسبه وافيًا ما نأمل له بما سطر (أنموذجًا)، وسعه فهمًا مَن أعمل عقله، وفقهه مَن ألقى السمع ممن شاهد في هذا العصامي دروسًا جليلة في أخذ الحياة بجدية.. تجعل مَن يحاكيه يتبصر بالفعل أثقال الحياة، وأنها لا تعطي إلا من يعطيها.. سواء من نفسه أو صحته، وكذا في الوقت الذي (هو عمرنا)؛ لكي نتعلم منها على كيسنا، بخاصة المثابرة خلف بغيتنا.. وأؤكـد على (المثابرة) التي هي وجه كبير من وجوه فهم الحياة، ووعيها كما يجب.
ولهذا قيل عن الصبر فـ(الجلد) أو المثابرة (تلكما معاول بلوغ الهدف).. ففي المثل (ليس البطولة أن لا تسقط.. ولكن أن تنهض كلما سقطت).
قال (النابغة الجعدي) رحمه الله:
سقيناهم كأسًا سقونا بمثلها
ولكننا كنا على الموت أصبرا
أي طالنا مثلما طالهم، لكن الذي أظفرنا عليهم أن صَبْرنا كان أطول..
ولا غرابة؛ فإن مما أطبق على صحته أن (الشجاعة صبر ساعة)، أو هو ما نستخلصه مما جاء في حديث يدلل على بُعد غزير (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يمسك نفسه عند الغضب).
** **
- عبدالمحسن بن علي المطلق