د. حمزة السالم
يتلقى الإنسان في صغره دين قومه وتقاليدهم وثقافتهم كمُسلمات لا شك فيها، ويُزرع في روعه التوقف عن التفكر في منطق مسلمات قومه. فإذا ما شب الصغير وكانت روحه أقرب للإنسانية منها للحيوانية بدأ يتساءل عن منطق هذه المسلمات ويتحدى فكره، حتى إذا ما استوى الرجل وبلغ أشده اتخذ موقعه الفكري في مجتمعه سيدا أو مسودا.
والتحرر من الطفولة الفكرية أمر ليس سهلا، فهو يحتاج لمواقف توقظ في العقل البشرية المقدرة الاستقلالية بصدمات تدفعه دفعا لا خيارا. وهذه الصدمات خطيرة فهي كحد السيف، يقطع أينما ضرب. فقد تسبب الصدمة خروجا عن المجتمع، وعن المنطق والعقل، لا خروجا عن التبعية الفكرية. وهذا ما نراه في بعض من المثقفين أو المتدينين. فإما ماركسي أو افلاطوني أو داعشي.
والاستقلالية الفكرية، متى امتلكها شخص بحق، تكون سببا في رؤية صاحبها لأمور ظاهرة لم تُر من قبل. وكون هذه الأمور جديدة انفرادية لم تُر من قبل فهذا يخلق في نفس صاحبها تحديا ذاتيا لفكره، ومراجعة مستمرة خوفا من الخطأ، فيقع في براثن مجتمعه المتربص به لمخالفته اياهم. وهذا التحدي والمراجعة الذاتية، تجعله يتقدم ويتطور في أفكاره، حتى يصل إلى مستوى متقدم، يضعه أحيانا في انعزالية كاملة عن مقدرة مجتمعه الفكرية. فانفرادية الرأي، خاصة إذا كان الخطأ البين هو الرأي المُتَقَبل والمنطق المُتبع، أمرا ليس فقط متعب عمليا واجتماعيا بسبب انفراديته، بل هو كذلك متعب نفسيا جدا يدفع صاحبه للعزلة والهجرة بعيدا عن مجتمعه. ولعل هذا ما وجده المتنبي فقضى حياته متنقلا، فخفف عن آلامه بزفرته المشهورة «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم»
وأن يكون للواحد منا رأي منفرد عن الجماعة، هو أمر حديث نسبيا. فالرأي الواحد في المجتمع البدائي كان ضرورة حمائية. وقد جاء انفتاحنا على الرأي الآخر انفتاحا سريعا غير مخطط له، ومن قبل فهم المجتمع لمعنى كلمة الرأي، والتمييز بين معنى الرأي لغويا وبين معناه إصلاحا في عرف حديث الناس. فالرأي في معنى اللغة هو القول النابع من رؤية الشخص. والمعنى اللغوي يتعلق بالذوق أو السلوك أو الهوى، ولكنه ليس له متعلق بالعقل مطلقا، فلا يلزم أحدا غير صاحبه. والرأي في المعنى اللغوي لا ضابط له ولا ميزان.
أما معنى الرأي في الاصطلاح العرفي في مفهوم الإنسانية، فهو الرأي المعتبر وهو الذي يلزم غير صاحبه، سواء بالأخذ به أو بالاعتراف بصحته. وهذا المعنى العملي لا يُصرف إلا للرأي المستند على شواهد واضحة بينة، لا يجحدها إلا مكابر. وهو رأي يكون مستنبطا بمنطق صحيح واضح، ودليل صحة المنطق عدم تناقضه واطراده. والكثير من شعوب دول العالم الثالث، لا تفرق بين هذا وذاك، فكل رؤية مخالفة أو منفردة يعتبرونها رأيا يجب احترامه بتنزيله منزلة الرأي المعتبر، وهذا خطأ.
العقل تاج الإنسان، فمتى أهان مجتمع عقولهم، هانوا على الناس، فهم إما في مذلة الفقر أو مذلة الاستغلال والسخرية.
وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية ترخص العقول فيها كما رُخص فيها الإنسان، ولذا يكثر تأجير العقول فيها مما يُبقي هذه المجتمعات في العالم الثالث.