د.محمد بن عبدالرحمن البشر
استخدم الذهب كنقد منذ سالف العصور، وذلك لعدة ميزات يتحلى بها، منها كثافته العالية، وبريقه اللامع، ومرونة تصنيعه، وصموده لمؤثرات البيئة، مهما كانت قاسية، فهو معدن لا يصدأ، ويحتفظ بخصائصه، وفوق ذلك ندرته.
لقد استخدم الذهب كمخزون للثروة، وللزينة أيضاً قبل أن يستخدم نقداً، فكان له قيمة مقدرة، دون استخدامه في التبادل التجاري كعملة، فهو ثروة كما هي الماشية، والأملاك الأخرى، وكان تقدير قيمته التبادلية تحتاج إلى عملية مضنية، فهناك ميزان لتقدير الوزن، وطريق متعارف عليها لتحديد درجة النقاء.
الحضارة المصرية القديمة كانت سباقة دائماً لما هو مبهر وخلاق، فمنذ أربعة الآف عام قبل الميلاد، كانت سبائك الذهب تستخدم كنقد في مصر القديمة، وكان اسم الفرعون مينا يطبع على كل سبيكة.
كانت الفضة أيضاً ملازمة للذهب في الاستخدام سواء للزينة أو الثروة أو النقد. وعبر التاريخ فقد كانت قيمة الفضة تتراوح بين 5-8 % من قيمة الذهب، أي أن ما بين اثني عشر إلى عشرين جزءًا من الفضة يساوي جزءًا من الذهب، لكن المصريين القدامى لديهم غير ذلك ويضعون نسبة تختلف عن غيرها، فهم يضعون الفضة بنسبة عشر في المائة من الذهب، وقد يكون مرد ذلك إلى شح الفضة في مصر مقارنة بالذهب المتوفر بكميات كافية، عبر تاريخهم المديد حتى قبل وقت اكتشاف الذهب في أمريكا وأستراليا وإفريقيا، أو ربما أنهم وضعوا تلك النسبة لتريحهم من عناء الحساب، فنسبة العشر بالمائة أسهل من غيرها في ذلك الوقت الذي لا تتوفر فيه أدوات الحساب المريحة.
وحضارة ما بين النهرين الرائدة في مجالات كثيرة من العلم، والازدهار، وسن القوانين، إضافة إلى ولعهم بالتجارة ومهاراتهم في ذلك، قد جعلت منهم أمة تسعى إلى الابتكار.
قام الآشوريون والبابليون بتطوير سبائك ذهبية محدودة الوزن والنقاء، لتساعدهم في تجارتهم المزدهرة، وقد طوروا سبائك ثقيلة بوزن ثلاثين باوند، ورسموا عليها صور أسود، دلاله على القوة، كما طوروا سبائك أخرى تزن نصف وزن تلك السبائك الثقيلة، ورسموا عليها صور بط، ولا أعلم لماذا اختاروا البط دون غيره، وربما أنها فكرة حلت بذهن ملكهم في ذلك العصر فنفذها، أو أنه أو أحد أفراد أسرته محبين للبط، فطبعوا عملته بصورته، أو أن ذلك دلالة على الهدوء والوداعة، أو غير ذلك، ومع توفر تلك العملة فإن الناس لم يكتفوا بدلالة قيمتها، والتعامل بقيمتها الاسمية، وإنما كانوا يعيدون وزنها، رغم أن وزن كل فئة منها متقاربة، وظلت تلك الممارسة سائدة إلى عام 600 قبل الميلاد، حيث بدأت الثقة تأخذ سبيلها إلى عقول المتعاملين، ومن المعلوم أن هناك تعاملات تجارية، قد لاتحتاج إلى قيمة هذه العملة، ذات القيمة العالية، فكثير من المعاملات التجارية، قيمتها صغيرة، لهذا لجأوا إلى تقطيعها، بقطع تلك العملة إلى قطع صغيرة أطلق عليها أسماء مختلفة، مثل الثالنت، ولمينا، الشيكل، لهذا فإن عمله الشيكل المستخدمة في إسرائيل حالياً، هي في الأصل كانت سائدة في حضارة ما بين النهرين، وسرعان ما علم بها أقوام يعيشون بالقرب من حضارة ما بين النهرين المزدهرة فاستخدموها، مثل ما حصل في اليونان ومستعمراتها، وآسيا الوسطى، والجزر المنتشرة في البحر الأبيض المتوسط.
لم يكن المصريون القدماء يحتاجون للتجارة مع الدول الأخرى المجاورة بشكل كبير، فمصر كانت غنية بحضارتها، وثرواتها الطبيعية، وأن كانت في حقب مختلفة لا تتقيد بذلك، طبقاً لرغبة الفرعون ووزرائه، وكما حصل لمصر بعد تولي الفرعونة حتشبسوت، ووزيرها سنتموت، الذي توسعوا في تجارة مصر مع فلسطين وسوريا والعراق، بعد مدة طويلة من خلود مصر عن النشاط الحضاري والتجاري فترة تولي الهكسوس الغزاة لمصر، وعدم تجانس ما ورثوه من أنماط الحياة مع ما كان سائداً في مصر لسنين عديدة، أما حضارة ما بين النهرين والشام فكانت حضارة نشطة وتبادلية، لهذا نجد أن الفينيقيين قد امتدوا إلى الآفاق، حتى وصلوا إلى طنجة وغيرها في المغرب، ووجدت بعض من آثارهم هناك، ولو كانوا يعلمون أن وراء البحر بشراً لعبروه، هذا إذا لم يكونوا فعلوا ذلك من قبل.
إنها حضارات عريقة في كل المجالات حتى في مجال العملات والتبادلات التجارية التي بقيت آثارها حتى اليوم.