د.عبد الرحمن الحبيب
كان المتوقع استمرار الوجود العسكري الأمريكي في سوريا إلى أن يتم ضمان عدم تمكن تنظيم داعش من إعادة بناء قدراته، حسب تصريحات سابقة للبنتاغون، لذا كان قرار إدارة الرئيس الأمريكي سحب قواتها من سوريا مفاجئاً وأثار انتقادات على نطاق واسع، سواء داخل أمريكا أو خارجها خشية عودة داعش وفتح المجال لصراعات جديدة، بل أن وزير الدفاع الأمريكي قدم استقالته بعد يوم واحد من إعلان ترامب.. وكان ترامب قد برر قراره بأن داعش «هُزم»، كما أنه سبق أن وعد بالانسحاب من هناك..
من الطبيعي أن هزيمة داعش عسكرياً أدت إلى انحسار خطره، فضلاً عن نفور الأوساط الحاضنة له نتيجة أعماله الوحشية البشعة، حتى صار تنظيماً منبوذاً من المجتمعات قبل الأنظمة. إنما إذا استمرت البيئة الحاضنة للتطرف (فلتان أمني، وسوء الظروف المعيشية) فقد يعاود نشاطه بشكل جديد أو يظهر تنظيم آخر أشد وطأة. لنتذكر عندما انحسرت قوة تنظيم القاعدة، أتى داعش أشد عنفاً لأن الأوضاع ازدادت سوءاً.. فلا يكفي مواجهة داعش عسكرياً بل بإستراتيجية شاملة تقضي على البيئة الحاضنة للتطرف تواجهه مالياً بقطع مصادر تمويله، وفكريا بمواجهة دعايته.. والأهم، تحسين ظروف المعيشة بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية..
فهل تم تغيير البيئة المحفزة لظهور التنظيمات العنيفة؟ الإجابة إن لم تكن بالنفي فهي على الأقل غير واضحة في كثير من المناطق التي كان يسيطر عليها داعش. إذن، لماذا لا نتوقع عودته، وهو تنظيم لا تزال لديه جيوب ومعاقل في بعض المناطق بالعراق وسوريا، فضلا عن التنظيمات الإرهابية الأخرى. عدم وجود استراتيجية لهزيمة المنظمات المتطرفة في معاقلها (العراق، سوريا، أفغانستان، الصومال، نيجيريا..)، وعدم وضوح أي خطة لمنع عودة داعش، لا يدعو للاطمئنان.
من السهل القول إنه يجب تهيئة البيئة الاجتماعية والاقتصادية وتوفير البرامج الإنمائية لمنع عودة داعش، لكن أي نوع من تهيئة البيئة.. وكيف تُعتمد إستراتيجية طويلة المدى لمنع جماعات التطرف من التشكل أو التمكن من التجنيد في مجتمعات معينة، فليس كل مشاريع التنمية تُجني ثمارها..
بالنسبة للمساعدات الخارجية، يذكر دافنا راند وريبيكا وولف (فورين بوليسي) أنه وجد، غالباً، أن مشاريع البنية التحتية الصغيرة أكثر نفعاً من مشاريع بنية تحتية بأموال ضخمة دون الكثير من التوجيه أو الرقابة.. كما وجد باحثون في برنامج الاستجابة للطوارئ بالعراق للفترة من 2003 إلى 2008، أنه عندما كانت مشاريع إعادة الإعمار أقل من خمسين ألف دولار، وبالتالي أكثر تحديداً محلياً، انخفض عنف المتمردين بمقدار خمسة أضعاف (كريستوفر زورشر، جامعة أوتاوا).
وفي هذا العام، وجد باحثو «ميرسي كوربس» أنه عندما يشارك الأفراد في برامج المساعدات الخارجية، فإنهم يبلغون عن انخفاض واضح في دعم جماعات المعارضة المسلحة.. ونتيجة للتجربة في أفغانستان، ظهر أن مجموعة برامج التدريب المهني والمساعدة النقدية قللت دعم المستفيدين المعلن لمثل هذه الجماعات المسلحة بنسبة 17 %. وفي الصومال، وجد أنه عندما التحق الشباب ببرامج إنمائية للتعليم الثانوي وانخرطوا في برامج المشاركة المدنية، انخفض دعمهم للجماعات المسلحة المحلية بنسبة 65 %. في كلتا الحالتين، حسنت هذه البرامج تصورات عن الحكومة المحلية، والتفسير المحتمل لهذا التحول أنه بسبب ذاك الدعم.
كتب تامار ميتس (جامعة كولومبيا) أنه في المجتمعات التي تستفيد من تركيز أعلى من جهود المجتمع المدني انخفض عدد الأفراد المشاركين في دردشة «الدولة الإسلامية» على تويتر في أمريكا. في لبنان، توصل باحثون من جامعة ستانفورد وجامعة برازيليا مؤخراً إلى أنه عندما تستفيد الأسر اللاجئة من المساعدات الأجنبية، فإن الذكور في سن القتال في هذه الأسر تقل احتمالية عودتهم إلى سوريا للقتال مع الجماعات المتطرفة.
لذا يستخلص راند وولف من استعراض تجربة خمسة عشر عاما، بأنه يجب علينا أولاً أن نفهم نوعية المساعدات الأجنبية للتصدي لحركات العنف، فبعض المساعدات قد تأتي بنتائج عكسية.. ثانيا: الجهود تركز على استهداف الأفراد المحتمل تجنيدهم للإرهاب، ولكن يجب أيضاً التعامل على مستوى الجماعات الاجتماعية الأوسع المعرضة لخطر احتضان التنظيمات الإرهابية، فهي أكثر فاعلية.
خطر داعش لم ينته رغم كل هزائمه، فقد خلص الأمين العام للأمم المتحدة بتقرير خاص إلى أنه «لا يزال يشكل تهديداً كبيراً ومتنامياً في جميع أنحاء العالم» (ماثيو ليفيت، معهد واشنطن). يذكر آخر تقرير لمجلس الأمن بشأن داعش وتنظيم القاعدة وما يرتبط بهما، أن داعش لا يزال يشكل تهديداً عالمياً كما شهدنا هجماته الإرهابية بأوروبا وجنوب شرق آسيا كالفلبين، وما زال التنظيم الأم بالعراق وسوريا يتكيف مع استمرار الضغط العسكري المفروض عليه.
كيف يتكيف داعش مع تلك الضغوط؟ يمكن إجمال أهم تكتيكاته في أربع: إرسال الأموال، تحفيز الهجمات الفردية المستقلة، التحالف مع تنظيمات إرهابية أخرى، تهيئة بعض العائدين لتنفيذ هجمات، وقد يكون للانسحاب الأمريكي من سوريا عاملاً مساعدا.. إلا أن أهمها كلها هو وجود البيئة الحاضنة من مجتمعات تتعرض للظلم والتهميش.. فرغم أن المجتمعات المعرضة لهذه الظروف تمقت سلوكيات داعش فإنها قد تقبل بوجوده انتقاماً لظروفها الموغلة في الإجحاف.