عبدالعزيز السماري
من أجل أن نرى مختلف أوجه الصراع في حياتنا اليومية بصورة أوضح علينا أن نحاول رصد تطور الحقيقة وأوجهها في تاريخ العلم والمعرفة والتاريخ في صراعهم مع الأيديولوجية، التي كانت -وما زالت - أقرب للحجاب الذي يضعه المرء ضد وهج شمس الحقيقة. والمكتبة العالمية من مختلف الثقافات ترصد منذ البدء في مجلدات لا حصر لها الصراع بين الحقيقة والأيديولوجية..
في تاريخنا الطويل كان الانتصار عبر مراحل التاريخ السابقة يعود إلى الأيديولوجية؛ فاللجوء إليها يسهل الأمر في مخاطبة العقول، بينما تبدد الحقيقة كثافة التجمعات الإنسانية المبنية على فكرة أو موقف أو عرق أو طائفة. وما يثير الاهتمام أن الناس يحملون في عقلوهم كثيرًا من المعتقدات الخاطئة، لكن الأكثر تشويقًا هو كيف يتشبث الناس بأفكارهم المؤدلجة بالرغم من أنهم تعلموا أنها غير مدعومة بالحقائق، وأنها أقرب للسياج الذي يدور حول عقولهم..
ولتكون الفكرة أعلاه واضحة لننظر في الطريقة التي يفكر بها بعض القادة السياسيين في الغرب لاتخاذ قرارات تغيير الحياة بعد تكليفهم بقراءة جميع أنواع الحقائق، ومن ثم معالجتها. فعلماء المناخ البارزون - على سبيل المثال - «متأكدون بنسبة 95 %» من أن تغير المناخ ناتج من نشاط يديره الإنسان، ومع ذلك فإن العديد من السياسيين رهنوا حياتهم المهنية على إنكار ظاهرة التغير المناخي؛ وبالتالي وجدوا أنفسهم يتشبثون بمعتقداتهم الأصلية بالرغم من تراكم الأدلة على غير ذلك.
وهو ما يعني أن الحقائق لا تغير الأيديولوجيا بسهولة، ولكن قد تقود بدلاً من ذلك إلى التحرك بعض الشيء لتقليل مخاطر مثل هذا التغير المناخي. وفي تجربتنا الحديثة كانت هناك ظواهر عديدة كان الموقف منها حازمًا، ويقول بحرمتها بشكل قطعي، لكن تطور الحقيقة العلمية أوضح خطأ مثل هذه الأفكار، وتم تداولها بعد ذلك ببطء، لكن الموقف الأيديولوجي منها لم يتغير إلى اليوم، ومنها - على سبيل المثال - الموقف من الابتعاث والسفر، والموقف من التصوير الفوتوغرافي والموسيقى، وكثير من الحقائق العلمية..
على نطاق أوسع تظهر الأبحاث أنه عندما يتم تقديم معلومات دقيقة، تتناقض مع منظور الناس الأيديولوجي الحالي، فإن الناس يميلون إلى الاستثمار بقوة أكبر في أفكارهم السابقة بدلاً من تغيير رأيهم. وهو خطأ في التفكير، يعرف باسم التأثير العكسي، وهو يُعتبر أكبر عائق في تطور الإنسان وخروجه من حلقة الصراع.
ويكون المخرج منه تفسير المعلومات الجديدة وفقًا لمعتقداتهم السابقة، وهو خطأ في التفكير، ويعرف بالتحيز. ويشكل تأثير التحيز والتأثير العكسي أحد أخطاء التفكير المعروفة في علم العلوم السلوكية كالتحيزات المعرفية. ويمكننا محاربة التحيز بتأكيد تلك الحقائق من خلال طرح علمي صرف، لكن الأهم من ذلك أن يتبناها السياسي، ومن ثم نشرها كحقيقة معرفية ضد الأفكار المسبقة والجامدة.
خلاصة الأمر أن التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر كان خلف ما يحدث من اجتياح للحقيقة في عالم اليوم. وقد تختزل الطرح أعلاه قصة العالم غاليليو في صراعه مع سلطات الكنيسة الكاثوليكية الرومانية حول اكتشافاته حول النظام الشمسي، واختراع التلسكوب.. في النهاية فاز علم غاليليو، وكان ثمن ذلك قرونًا من الصراع والحروب.