عمر إبراهيم الرشيد
ذاكرة الطفل وعقله صفحة بيضاء ترسخ فيها المواقف والأفكار المؤثرة، فلازلت أذكر ولا أظنني أنسى تلك الأيام الخوالي في المرحلة الابتدائية، حين كان معلم الخط والإملاء يطلب منا كتابة كلمات على صفحة متخيلة، أي الكتابة في الهواء، وهو يتابعنا ويصحح أخطاءنا، وكانت من باب التعليم بالترفيه وهي طريقة تعليمية تنتهجها مؤسسات التعليم في الدول المتقدمة حالياً.
كما يجدر التذكير بأن مادة الكتابة والتعبير لحقتنا الى المرحلة الثانوية، وبحق كان لهذه المواد ومستويات معلميها الفضل بعد الله علينا في جودة الخط والإملاء ولله الحمد.
يعترف أحد الأقارب الأصدقاء وهو كاتب وباحث في تاريخ وتراث الجزيرة العربية بأن أصابعه قد فقدت كثيراً من تآلفها مع القلم بسبب قلة استخدامه بعد هذا الطوفان التقني وأجهزته اللوحية. لذا فباعتقادي الشخصي أن قرار إعادة مادتي الاملاء والخط إلى مناهج التعليم العام من أهم التحولات الإيجابية لوزارة التربية في المملكة، فالوضع فاق الوصف فيما يتعلق بمستويات الإملاء والخط ليس لكثير من التلاميذ ذكورهم وإناثهم فحسب، بل وصل الأمر إلى حاملي شهادات عليا، أطباء ومهندسين، بل ومسئولين في كثير من الدوائر الحكومية، وبالطبع ليس هذا حال الجميع فالحديث عن نسبة كبيرة، والتعميم لغة الجهلاء.
يقول الإغريقي الإسكندري إقليدس (توفي 285 قبل الميلاد) وهو الملقب بأبي الهندسة، يقول عن الخط: « الخط هندسة روحية وإن ظهرت بآلة جسمانية «. والكتابة والخط اليدوي مرآة لجمال الروح والذائقة وينم عن ذكاء في وجه من الوجوه لأن الذكاء أنواع. يقول فيليب هنشر في كتاب له بعنوان (الحبر المفقود): « لطالما شكل الخط باليد والكتابة إنسانيتنا وعبر عن مكنوناتها عبر آلاف السنين، بينما في وقتنا الحالي يتزايد استبعاد الناس للأقلام والورق وبطاقات الرسائل واستبدالها بالأجهزة اللوحية «. وحين نبتهج بقرار تربوي وتعليمي نوعي كهذا القرار، فإن وصفه بالحضاري ليس من باب تنميق الكلام أو البهرجة اللفظية، لأن تدهور الكتابة والخط اليدوي تدهور للغة كأحد أركان الهوية. ومعروف بأن دعوات هزيلة متخلفة قد خرجت في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، لاستبدال الحرف العربي باللاتيني كما فعلت تركيا أتاتورك وغيرها، وذلك في مصر ولبنان وبداعٍ واهن وهو تسهيل اللغة وانتشارها.
من فضل الله تعالى أميل لكتابة ما يخطر ببالي من أبيات شعرية أحفظها من المعلقات أو روائع الشعر العربي والنبطي على الورق وأجد في الكتابة متعة وترسيخاً للحفظ وصقلاً للخط والذائقة الفنية، لذا فإن في إعادة مادتي الإملاء والخط إلى التعليم إعادة اعتبار للغة، وعودة للقلم إلى مقامه!