م. بدر بن ناصر الحمدان
حينما قدم المهندس الإنجليزي «إبنزر هوارد» حركة المدينة الحدائقية في عام 1898م كأسلوب أمثل لتخطيط المجتمعات العمرانية التي تجمع بين المزايا النسبية والتنافسية للمدينة والريف، كانت تلك المجتمعات لا تملك سوى احتمالية السكن في المدينة بتكامل خدماتها وافتقادها للطبيعة والترابط الاجتماعي وأسلوب حياتها المعقد، أو في الريف بطبيعته الغنية ونسيجه الاجتماعي الأمثل وحياته البسيطة وافتقاده لكثير من الخدمات.
مخطط «الثلاث مغناطيسات» الذي صممه السيد «هوارد « للإجابة على السؤال: أين نذهب؟ التي كانت إجابته: نذهب إلى المدينة والريف أو المدينة الريفية، فتح المجال للعديد من النظريات والأفكار والبدائل التي حاولت أن تحاكي هذا النمط من التخطيط لتحسين أسلوب الحياة ونمط العيش.
لقد بات من المستحيل أن نحاول تطبيق مثل هذه النظرية في المدن السعودية بهذا المفهوم المباشر، خاصة بعد أن فقدت أغلب هذه المدن المناطق المتاحة التي كان يمكن التحكم من خلالها بهذا التوجه وبعد أن استهلكت جل الأراضي نتيجة التمدد العمراني الذي حدث بإضعاف ما خطط له، إلا أنه يمكن أن نُخطط لبدائل مماثلة تحتفظ بسمة المزج بين المدينة والريف من خلال مناطق ما زالت متاحة داخل المدن السعودية الكبرى.
على سبيل المثال لو أعدنا قراءة المخطط الهيكلي لمدينة الرياض وقررنا تحديد حيزات عمرانية على أطراف المدينة تكون متاخمة لحدود العمران في كل الاتجاهات الأربعة وخصصناها كمناطق ذات اعتبارات تخطيطية وعمرانية خاصة تتسم بمحددات وضوابط مشابهة لخصائص الريف من حيث نمط التخطيط والنسيج المعماري والعمراني ومواد البناء التقليدية، ونسبة المناطق الخضراء، وطبوغرافية المكان، وتنسيق الموقع، واستبدلنا الوحدات السكنية بنزل ريفية متنوعة تجسد العمارة الطينية، ثم طورنا هذه الحيزات على هيئة أحياء ريفية راقية ومتكاملة الخدمات.
أعتقد أن هذه الأحياء الريفية داخل المدن ستغير من تركيبتها العمرانية وكذلك في وظائفها الحضرية، وسوف تعزز من وجود بيئة سكنية ذات معايير خاصة تضمن حياة ريفية هادئة في قلب مدينة صاخبة تمتلك كل مقومات الحضارة، هذا المزيج يحتاج إلى عقول مبدعة تستطيع التعامل مع هذا الاندماج، وتقدم حلولاً وبدائل وأدوات قابلة للتطبيق، فلم يعد من المقبول أن نستسلم لنمطية النمو العمراني، والمتمثل في نسخة متطابقة ونماذج موحدة ومكررة لأحياء سكنية خرسانية جافة يعيش سكانها في عزلة و»انطوائية حضارية» لا تعرف معنى للحياة.
أنا هنا لا أتحدث عن «ترييف المدن» بالمفهوم التنموي فهذا موضوع مختلف تماماً وليس مدار بحثنا، بل أطرح نموذجاً متوازناً يمكنه تحويل هذه الحيزات إلى وجهات سياحية وترفيهية «نوعية» لسكان المدينة تمكنهم من قضاء فترات زمنية مختلفة بداخلها -أو ربما سكن دائم- يوفر جميع الخدمات الأساسية ويقدم لهؤلاء السكان كبديل ريفي في قلب مدينتهم المكتظة، ويرتبط بشكل منظم مع أجزاء المدينة الأخرى تمنح فرصة الاستفادة من مقوماتها، في محاولة لتفكيك نمط حياتها المعقد كما هي سمة المراكز الحضرية الكبرى.
تنفيذ مثل هذا المشروع يتطلب عملاً متكاملاً بين إدارة المدينة والقطاع الخاص من خلال تقديم هذه الحيزات المقترحة كحقائب استثمارية تنفذ من قبل تحالفات عالمية قادرة على صنع مثل هذا التحول في نمط المشروعات الكبرى التي حتماً ستمثل نقلة نوعية في أسلوب صناعة الحياة داخل المدن السعودية.