«الجزيرة» - محمد السنيد:
تحدث صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبدالعزيز -رحمه الله- قبل وفاته عن والده الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- عن سيرته العطرة بتوحيد هذا الكيان المملكة العربية السعودية.
حيث قال سموه: لقد ولد عبد العزيز في زمن كانت الرياض بخاصة وشبه الجزيرة العربية بصورة عامة تعيشان ركوداً وخمولاً ثقافياً وفكرياً.. وبالرغم من أن الطفل يكتسب من بيئته ويتغذى منها، إلا أن فطرة عبد العزيز في أصالتها تنمو فيه فتستقيم على نهج في الحياة يفوق أثر البيئة وتسمو فطرته على كل حوافز البيئة وسلوك المجتمع..
وقال سموه في كتاب المؤسس في عيون أبنائه وأحفاده الذي صدر مؤخراً نقلاً عن كتاب سموه (صور من حياة الملك عبدالعزيز) الذي تحدث عن العديد من جوانب شخصية والده.
وقال: كلما قرأت ما كتب المؤرخون.. وسمعت ما روى الرواة.. ازددت يقيناً أن هناك كثيراً من الأسرار في حياة والدي -رحمه الله-.. لم تدون بعد.. وأنها بحاجة إلى جلائها وإخراجها للناس.. لتكشف لنا عن السمات والمزايا التي انفرد بها.. وكونت أسس هذا الكيان الكبير ودعائمه.. وفي اعتقادي أن حجر الزاوية في أخلاقه وسيرته.. هو إيمانه المطلق بالله.. ولو نظرنا إلى كيفية سلوكه وتصرفاته في طفولته، نعجب للسمات والصفات التي كان يتحلى بها..
وبين صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبدالعزيز قائلاً: لقد استطاع منذ تفتح وعيه على العالم، أن يطوع رغباته وأهدافه ومطامحه في الحياة، تطويعاً ناضجاً.. فالإيمان العميق والحكم المتزن على الأشياء وثبات شخصيته صاغ حياته وتفكيره ومنهجه الشيء الذي كان له تأثيره في أعمق أعماق المجتمع.
.. ولما كانت همة عبد العزيز لا تعرف حداً يحدها وبنظراته الشاملة أخذ - بعد توحيد المملكة وضم أطرافها واستتباب الأمن فيها - يتأمل حال العالم الإسلامي وما هو عليه من تفكك وتفرقة.
وحز في نفسه أن يجد الشعوب الإسلامية ترزح تحت نير الاستعمار بيد أنها تتجه إلى قبلة واحدة ويجمعها كتاب واحد وسنة واحدة وتقف بين يدي ربها وقفة واحدة خمس مرات في اليوم.. وكان الأجدر بها أن تكون أمة واحدة قوية متماسكة كالبنيان المرصوص.
وبين أنه كانت لعبد العزيز محاولات جادة مخلصة لإصلاح حال المسلمين والدول الإسلامية. فدعا إلى مؤتمرات إسلامية كثيرة.. إلا أن تلك المؤتمرات وإن أوجدت جواً من التقارب بين المسلمين ولكنها لم تحقق حلم عبد العزيز في إيجاد عالم إسلامي متآلف بعيد عن اختلاف المذاهب والأجناس بسبب الاستعمار الذي كان لجميع تلك الدول بالمرصاد.
وكان رحمه الله إلى جانب ذلك يعطي فلسطين القسط الأكبر من عنايته واهتمامه، لأنه يعلم أنها مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومستقر القبلة الأولى.. وأن تمزيقها تمزيق للشعوب العربية والإسلامية فهي بمثابة القلب من الجسد الواحد..
وأشار أنه من أجل ذلك يرى وجوب الاهتمام بها والسهر عليها والعمل لحفظها من الضياع. وكان رأيه في ذلك أن تقتصر الحرب على اليهود والشعب الفلسطيني وحدهما وأن تمد الدول العربية الشعب الفلسطيني بكل الطاقات والإمكانات التي تؤمن له النصر على العدو الباغي المقتحم، وأن تأخذ الحرب بينهما شكل حرب العصابات أو حرب شعبية فإذا اندحر فيها اليهود لم يكن للدول الأجنبية حق التدخل فيها. وكان يرى أن دخول الجيوش العربية هذه الحرب ضد اليهود سيعطي الدول الكبرى ذريعة التدخل بشكل أو بآخر.. يمنع الدول العربية من مواصلة الحرب النظامية ويساعد اليهود ضد الجيوش العربية. وحين علم والدي أن حكام العرب قد رفضوا رأيه هذا وأصروا على الحرب قال وهو حزين: «لقد ضاعت فلسطين».
وقال سموه: ومن علامات هذا الإيمان العميق، ثقته بالخالق الكريم في كل خطوة يخطوها، أو أمر يزمع إنفاذه.. وأن الله ناصره وما النصر إلا من عند الله... ولكن معظم المؤرخين في كتاباتهم عن عبد العزيز اقتصروا على أعماله السياسية وانتصاراته في المعارك.. وقل من كتب منهم عن «منهجه في الحياة» الذي جعل منه «ظاهرة» تاريخية مميزة عن سائر الشخصيات عبر عصرنا الحديث. فلم يكن السيف العامل الوحيد في انتصارات عبد العزيز.. وتوحيد شعب مضت عليه مئات السنين تعبث به النزوات القبلية والتفرقة بمختلف أشكالها..
إن انقطاع صلة كثير من الكتاب الذين تناولوا سيرة حياة عبد العزيز، بالشيوخ الثقات الذين عاصروا الأحداث وحفظوا الأخبار، حال بينهم وبين التركيز على البيئة التي ترعرع عبد العزيز ونما في أحضانها.