محمد آل الشيخ
ما يجري في السودان أخشى أن يكون موجةً ثانيةً من موجات ما يُسمى بالربيع العربي المشؤوم. هذا الربيع المزعوم الذي تحوّل إلى شلالات من دماء وتهجير وخسائر فادحة طالت كل المجالات، وعلى جميع المستويات. وأخشى ما أخشاه على السودان أن تتحوّل الاضطرابات الشعبية فيها إلى الحالة المأساوية المروِّعة للدول التي غزتها ظاهرة الربيع العربي الدموية المشؤومة. وأنا هنا لا أدافع عن الأخطاء - وهي موجودة - ولكنني أدعو تلك الشعوب إلى أخذ الموعظة من سوريا وليبيا واليمن وكذلك الصومال، فكل تلك الشعوب التي ثارت في البداية كانت تطالب أولاً بإصلاح الأوضاع المعيشية، وانتهت أوضاعها إلى ما ترونه اليوم. وليس لدي أدنى شك أن من أشعلوا الثورات في تلك الدول لو خُيِّروا اليوم بين أوضاعهم المعيشية قبل ذلك الربيع العربي المشؤوم وبين أوضاعهم المعيشية المروِّعة التي يعيشها الإنسان في تلك الدول اليوم، لاختاروا ما قبل على ما بعد، إلا أن يكون متأسلماً لا قيمة للإنسان ولا للأوطان في حساباته.
الإصلاح، أي إصلاح، وبالذات الإصلاح الاقتصادي، لا بد وأن يكون في كثير من الأحايين مؤلماً، لا سيما إذا كانت أوضاع تلك الدولة جاءت نتيجة لتراكمات لأخطاء مزمنة كما هو في السودان، ليكون أمام صاحب القرار نهجان لا ثالث لهما، إما الاستمرار في العلاجات المسكِّنة، التي قد تُسكِّن الآلام آنياً، لكنها لا تقضي على المرض، أو على الأقل تحاصره، وتمنع من انتشاره وتفاقمه. ومن التجارب التاريخية فإن المسكِّنات وعدم مواجهة مسببات الأمراض، قد تصل إلى درجة تصبح فيها تلك المسكِّنات عديمة الفائدة. غير أن الشعوب إذا (أدمنت) المسكِّنات فترات طويلة، يكون من الصعوبة بمكان تقبلها للإصلاحات بصدر رحب.
السودان كما يؤكِّد كثير من الخبراء الاقتصاديين مرشح وبقوة لأن يكون سلة غذاء العالم العربي، فهو يمتلك من مقومات النهضة الزراعية ما يمكن أن يؤهله لأن يصبح وبجدارة ذو قدرات حقيقية ليس لحل مشاكله الغذائية فحسب، وإنما لكل ما تحتاجه المنطقة العربية، فالماء موجود وبغزارة، وكذلك التربة الخصبة بمكوناتها الطبيعية الغنية، إضافة إلى اليد العاملة، إلا أن سوء التخطيط والإدارة وكثرة الأخطاء من الإدارة العليا أوصله إلى هذه الأوضاع المزرية.
الأمر الآخر، والذي أخاف على السودان منه، أن هناك كثيراً من المتربصين، سواء المحليين أو الخارجيين، يقتنصون هذه الفرص لصب مزيد من الزيت على النار، بالشكل والمضمون، الذي يجعلهم يرون في تلك الثورات والاضطرابات فرصة سانحة لتحقيق أهدافهم، ومثل هؤلاء كثيرون في الداخل السوداني، وكذلك في خارج السودان، وعلى رأس هؤلاء جماعة الإخوان المتأسلمين، فالنظام في السودان كان في البداية نظاماً إخوانياً، إلا أنه بعد التجربة اكتشف أن هذه الأيديولوجية الديماغوجية ليست حلاً، فبدأ يبتعد عن التجربة الإخوانية، ويتجه شيئاً فشيئاً إلى الحلول الليبرالية الاقتصادية، ولعل هذا (النأي بالنفس)، كان من أهم أسباب هذه الاضطرابات، فالانتقال من نهج إلى نهج اقتصادي غالباً ما يحدث نوعاً من الفجوة التي تحتاج إلى عامل الزمن حتى يتماهى معها المواطن، خاصة إذا كان التحول، أو ما يُفترض أنه تحول، يتعلّق بالانتقال من اقتصاد الريع إلى اقتصاد الإنتاج، وهذا ما يبدو أن السودان قد عقد العزم على انتهاجه، وهو ما يحتويه الخطاب الإعلامي للمدافعين عن النظام.
المرحلة التي يمر بها السودان مرحلة في غاية الصعوبة، حيث إن صاحب القرار السوداني بسبب هذه الانتفاضات قد يجد نفسه أمام خيارين إما الاستمرار في الإصلاحات الاقتصادية بإصرار، أو العودة إلى المسكِّنات ودعم السلع بما ينهك الميزانيات المالية كما كان الوضع في السابق.
وآمل من كل قلبي أن لا يتكرر في السودان ما حصل في البلدان التي اجتاحتها رياح (الخراب العربي) وليس الربيع العربي.
إلى اللقاء.