د.فوزية أبو خالد
الاستشفاء من الألم بالألم
ذلك الممض الشرس القاسي المغرور
غالبا ما يكون مغرمًا بالتشفي من تجاهلي لغواياته
يتربص بوقتي
يمر بيني وبيني
يحاول أن يدخل على الخط في محادثاتي السرية مع نفسي
لا ييأس من محاولة تخريب علاقاتي بجيراني وكتبي وصديقاتي
يحاول إشغالي عمن أعشق وعما أعادي
الألم
ذلك الشفيف الرقيق النبيل العاتي
يمنحني وقتًا إضافيًّا لتأمل ذاتي
نادرًا ما يتركني أتنازل له عن رغباتي
يحاول أن يخلي بيني وبين إرادتي
وبإعجاب سري يبتسم لمقاوماتي
فهل الألم
إلا تدريب الروح على الرفيف
وإدخال الجسد في تجربة الأجنحة
الألم ليس مرضًا بسيطًا كالأنفلونزا
الألم ليس مرضًا قارسًا كالسكر
الألم ليس مرضًا عضالاً كالسرطان
الألم قد يكون نقيض الصحة
إلا أن ضده الأعظم ذلك القاتل الحقيقي الذي اسمه اليأس
الألم شفاء من أن لا ننتظر المساء إلا لننام
الألم وقاية من أن لا ننتظر النهار إلا لنمارس الروتين اليومي
الألم تجديد العهد مع الأمل
الألم لهفة جديدة للمجهول
الألم اكتشاف لمناجم الصبر التي تفور تحت جلودنا
الألم اختبار للشجاعة التي ندعي والجرأة التي نرجو
كأننا نكتشف عبير القهوة ورائحة الجرح لأول مرة
كأننا نقع في الحب أول مرة
كأننا ننجح في اختطاف قبلة أولى من الحياة للمرة الثانية
* الاستشفاء من الألم بالألم لا تخلو من اقتباس نواسي لذا جرى التنويه
* * *
شهوة الرحيل والحياء من الحبر
يقول محمود درويش في قصيدته الخالدة أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي:
إذا مت أخجل من دمع أمي
بما يلهمني قول كلما اشتهيت التوقف عن الكتابة أو الاعتذار عنها أشعر بالحياء من فوران الحبر في عروقي
أكون شمسًا في الرمق الأخير من الغروب
أكون أشرعة تُطوى على مشارف نهاية الرحلة
أكون كلمة على وشك ينفذ حبرها
فجأة... وجسدي مستسلم للسبات ووجداني بتقبل يتقدم منه الموات... ترف شرارة
بمجرد أن يحين موعد الكتابة أو تلوح دعوة لها أو تفوح رائحة عبيرها في أعصابي صدفة أو عن سابق عمد وإصرار
أو أمر بلحظة خارجة على سياق الإيقاع المعتاد للحياة اليومية للناس العاديين مثلي... تتحرك حالة من الرفض والشراسة في أحشائي على كل حالات الألم والضجر والاكتفاء والتقزز الممضة التي كانت تحاصرني بمضائق النهاية وأفقها وبتحويلها المنية إلى أمنية والخاتمة إلى خيار مشتهى. فجأة أصير بحرًا وأمواجًا وأخيلة وأطفالاً وقصائد وأرغفة وقهوة وأقحوانًا في حالة تظاهر ضد كل أشكال حالات الجزر.
ينتفض شيء ما بداخلي وفجأة تخفت كل نداءات الرحيل التي لم يكن يدور بخلدي ولم أكن أسمع سوى وسواسها فأحس برغبة جارفة وبقوة خارقة على المقاومة.
فلا يعلم إلا الله اللهفة التي تبعثها في روحي وجوارحي فتح صفحة جديدة في كتاب الحياة في كل مرة أفتح فيها صفحة الشاشة لأكتب قصيدة.. مقالاً.. رسالة شخصية.. خطة بحثية.. إن مجرد فكرة أن أغمس أصابعي في لوح الحروف تثير مخيلتي وتشحنني بطاقة الشباب وإن كنت قبلها بلحظات متعبة حد الأعياء أو متجعدة حد الإجهاد أو منكفئة ومنكمشة وملتفة بقماش أكفاني حد التحلزن.
ولا يعلم إلا الله الهم الذي يعتريني والقلق الذي يعبث بأعصابي والحمل بكسر الحاء الذي أحسه على أكتافي ما قبل وقت التماس مع مفاتيح الكتابة.
ما بين اللحظة الثانية واللحظة الأولى وقت قد يطول عدة أسابيع أو عدة ساعات وقد يقصر فلا يتجاوز ما بين الشهيق والزفير أو ما بين رف الهدب إلا إذا كانت اللحظة الثانية ليست طويلة بما يكفي لأكف عن الاكتواء بعشق الكتابة وعن محاولة الإمساك بألعابها النارية وشهبها وشموسها ونجومها ونيازكها..., فإن الأولى خاطفة بما يكفي لأن أتعلق بكل ما تبقى في القلب والعقل من طاقة بريشة الوقت لأنجح في تأجيل حتفي بفتح صفحة جديدة وكتابة بضع كلمات طائشة أو رشيدة أو الاثنين معا في كتاب الحياة أو على دفاتر شعري ونثري.
* * *
** أعتذر للتي نزهو بها فزادتنا زهوًا بفوزها بجائزة نجيب محفوظ للرواية الكاتبة السامقة أميمة الخميس وأعتذر كذلك لقرائها وقرائي عن عدم الوفاء بوعدي أن يكون مقال اليوم عن ذلك الفوز، وأعدهم بأن يكون موعد المقال في مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم.