د. تركي بن هشبل
يعتبر خطاب الأزمة أحد أشكال الخطاب السياسي الذي يحرص من خلاله المسؤول على إقناع الجمهور بالإجراءات التي سوف يتخذها لحل المشكلات وبالتالي إنهاء الأزمة. ويعتبر صياغة هذا النوع من الخطابات أمراً صعباً لأنه يعتبر نقطة تحول للأفضل أو للأسواء. ويرى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كسينجر بأن «الأزمة» هي عرض (Symptom) لوصول مشكلة ما إلى مرحلة مباشرة للانفجار وهو ما يقتضي ضرورة المبادرة بحلها قبل تفاقم عواقبها. ويشكل الوضع الفرنسي الراهن أزمة حقيقية نتيجة قيام حركة السترات الصفراء (Yellow Vests) منذ مطلع شهر نوفمبر الماضي باحتجاجات ومظاهرات واسعة شملت أكثر المدن الرئيسية, وذلك تنديداً بارتفاع أسعار الوقود وتكاليف المعيشة ثم امتدت المطالب لاحقاً لتشمل إسقاط الإجراءات الضريبية التي تستنزف الطبقة العمالية والمتوسطة فيما تقوي الطبقة الغنية ثم تطورت الأمور لتصل حد المناداة باستقالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. طول أمد هذه الأزمة أجبر ماكرون للخروج أمام شاشات التلفاز ليلقي خطاب تهدئة وإصلاح, محاولة منه لتهدئة غضب الشارع وتحقيق مطالب المتظاهرين والوعود بإجراءات إصلاحية.
سوف أذكر هنا أهم النقاط التي شملها خطاب ماكرون, والذي من خلاله يبرز أهمية خطاب الأزمة ويعطي لمحة عن كيفية صياغته.
أولاً: الحديث عن الوطن ومقدراته وإدانة أعمال العنف وتجريم مرتكبيه وإبراز قوة الدولة, حيث أكد الرئيس الفرنسي أن ما يحدث في العاصمة والمدن الفرنسية من تخريب هو كارثة للاقتصاد الفرنسي وتوعد بمحاسبة مرتكبي أعمال العنف حيث قال: «أريد أن أقول لكم في البداية أن أعمال العنف هذه لن تقابل بأي تساهل».
ثانياً: التأكيد على أن الرئيس يشعر بألم المواطنين ويعلم أوضاعهم ومشاكلهم الاقتصادية, خاصة الطبقة الفقيرة, حيث قال «لذلك أعلم أن الزوجين اللذين يستيقظان باكراً للعمل ويعودان متأخراً.. وتلك السيدة أو الأرملة التي تعيش لوحدها ولا تستطيع أن تعيش بأجرها إلى نهاية الشهر.. والمتقاعدين الذين يحصلون على أجور متواضعة.. كذلك الضعفاء والمعاقين». هنا يريد ماكرون التأثير على مشاعر الجمهور وإثبات عكس ما قيل عنه بأنه رئيس للطبقة الغنية, التي برر لاحقاً في خطابه أن سبب إلغاء ضريبة الثروة هو هجرة الأموال خارج فرنسا وأن بقائها يساهم في رفع الاقتصاد وإيجاد فرص للعمل وتقليص معدل البطالة.
ثالثاً: الاعتراف بالتقصير وواقع المشكلة, حيث أكد الرئيس الفرنسي أنه يتفهم غضب الفرنسيين وبأن 18 شهراً من الحكم لم تستطع رفع المعاناة أو على الأقل تخفيفها على الشعب الذي يعيش هذا الوضع منذ 40 سنة. ومن الإشارات على ذلك عندما قال «أتحمل حصتي من المسؤولية» و»نريد فرنسا يعيش فيها المرء بكرامة من خلال عمله, وقد سرنا في هذا الطريق ببطء أكثر من اللازم».
رابعاً: الإعلان عن سلسلة إجراءات لحل الأزمة, وذلك بتعزيز القدرة الشرائية للفرنسيين ورفع الحد الأدنى للأجور بقدر 100 يورو دون أن يتحمل أصحاب العمل كلفة إضافية وإلغاء الضرائب على ساعات العمل الإضافية وإلغاء الزيادات الضريبية على معاشات التقاعد لمن يتقاضون أقل من ألفي يورو شهرياً وغيرها. تأتي هذه الإجراءات للتخفيف من وطأة الغضب ومحاولة التأثير على المتظاهرين لإطفاء فتيل الأزمة.
خامساً: التأكيد بأن المواطن الفرنسي شريك في بناء الدولة, كما أنه شريك في تحقيق خطة التحول التي أعلن عنها الرئيس عند توليه الرئاسة لتعزيز الاقتصاد الفرنسي, حيث قال «هذا مشروع مشترك وعلينا أن نجدد هذا المشروع المشترك.. لذلك الحوار يجب أن يكون أوسع.. علينا جميعًا أن نقوم بواجباتنا». هنا يريد ماكرون أن يؤثر على المواطن وإشعاره بالمسؤولية وضرورة التكاتف والتعاون للقيام بإصلاحات عامة تشمل كل القطاعات.
أخيراً: تأكيد الرئيس على أن السبيل الوحيد لحل الأزمات هو «من خلال الحوار والاحترام والالتزام», ولذلك وعد بأنه سوف يعود للتواصل مع الشعب مرة أخرى لاطلاعه على نتائج ما ورد في خطابه من وعود وإجراءات لتحسين الوضع والمعيشة. هنا يريد ماكرون أن تكون هذه المبادرة تعزيزاً لمبادئ الحوار والاحترام والالتزام وبالتالي التأثير على الشارع لتبني هذه المبادئ.
خطاب ماكرون, في رأيي, يعتبر خطاباً متزناً, حرص فيه على إبراز هيبة الدولة وتلبية مطالب المتظاهرين. ولكن يبقى السؤال الأهم هو هل سيقنع المتظاهرين بما ورد في الخطاب من إجراءات ووعود, أم أنهم سيجدونها فرصة للحصول على مطالب أكثر وبالتالي تصعيد الموقف والإبقاء على المظاهرات التي قد تؤدي إلى نزع الثقة من الرئيس.
** **
- أكاديمي ومتخصص في تحليل الخطاب السياسي