فاتحة
{ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُود وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}.
(1)
مدخل
* *
حكاية تختصر حكايات
وإجابة تلغي استفهامات
الصفر يصبح رقمًا
والرقم يمتد اسمًا
والاسم يصير وسمًا
فتى لم يتجاوز عقده الثاني يضعه قرار بعثته أمام الملك
هذا بهيبته وذاك بهيئته وبينهما مسافة مكان ومكانة وواقع ومواقع ..
تلقائية زمن جعلت الكبير يأنس بالصغير والصغير ينطق وينطلق بحضرة الكبير
هو راعي غنم أو كذا جاء التعريف فشاءه الملك سعود راعي عقول والتقيا بعد أعوام فإذا الصبي النابه عالم في إهاب شاب سعى في دروب العلم دون أن ينسى أن غُنم الغنم قد قاده نحو القمم
(2)
لم يكن طريقه كما طريق من سبقه ومن لحقه ميسرًا فقد جاء من أقصى الفاقة فتىً يسعى كي يكون وعيًا يرعى ..
الزمن مختلف فقد كانت المسافة ضوئية بين الذُّرى والثَّرى، وأغلبية ناسه يسكنون مناطق الظل مستأنَسين لها أنيسين بها ..
للظل إيقاعه وموقعه، وأستاذنا الذي نكرمه اليوم أنموذج على لغة الظل التي لا يعرفها أو يألفها المفتونون بالوهج، ولعلها تكون مفتتح الحكاية بتأطير نظريٍ يدعمه واقعٌ ووقائع.
(3)
الحديث هنا عن «الظل» بمعانيه المعرفية الشمولية لا استقصاءً بل استدلالًا على المسافات الفاصلة بينه وبين الضوء وفقًا لرؤية بعض الفلاسفة في أن «الظل العميق نتاج الضوء المكثف»، وهو ما يعني أن الظل نورٌ ولو بدا عَتَمة، وكانت له دلالته في بعض الأمم زمنًا قديمًا لم تغادره أمم أخرى اتكأت على نقد الظل لا الأصل، ولم يكن هذا إيحاءً بأهميته بل هروبًا من مسؤوليته ومساءلاته، وكذا يصنع الظل لمن يحبونه إذ يعفيهم من «مواجهة الواجهة» التي قد تتطلب ما لا يستطيعون الرضا به أو قبول اشتراطاته.
يجيءُ الجميع من الظل ثم يفترقون ليعيش فئامٌ تحت الشمس ويموتوا بوهجها، ويغادر غيرهم الحياة كأنْ لم يعبروها، والمفارقة التي يصعب تفسيرها أن في « الشمسِيين « من يسكنون الظل بعد رحيلهم وينبعث من « الظِّليّين « من يفترشون أرائكهم، وسيتبع هذا استفهام : من الكاسبُ ولمن المكاسب ؟ ولن تكون الإجابة متيسرةً؛ إذ الحسابات مختلفة يتداخل فيها المعجَّل والمؤجَّل، والظِّلِّيون - في طبعهم - لا يعتنون بمثل هذه المسائل بمقدار ما يعنيهم التواؤمُ مع أنفسهم في صفاءٍ داخلي لا يعبأ به الشمسيون.
الظل -في تقدير عائِشيه- هامشٌ بقيمة المتن، وظلمةٌ ببريق الضياء، غير أنه هلاميُّ اللون حيادي الطعم عديم الرائحة لدى الأكثرية الساكنة في النهار القائظ المشمس، ومن ينحاز إليه يراه كما سادة قمم «الأوليمبوس» حيث لا يَعدم خيالُهم أساطيرَ بائدةً تُرضي من يبرر بقاءها أو يدَّعي نقاءَها.
لقانون الظل في عرف دارسي الرياضيات جدواه المكافئة لقانون «الجيب» في «حساب المثلثات» لكنه لا يحظى بانتشاره، وقد يلخص هذا معادلة الضوء والظل في قيمة توازيهما بحكم قوانين الحياة وأعراف الأحياء؛ فمن يأنس بالشمس لا يلتفت للظل، ومن يعشق الظل لا يطيق الأضواء، وبينهما مسافة ال» بين بين» التي يعيشها المترددون ومن تفرض عليهم أعباؤهم ألا يُحكموا اختياراتهم أو ربما ألا يُحسنوها.
(4)
وسواءٌ أختار أستاذنا الظل أم لم يختره الضوء فقد أنار مساحاتٍ غادرها ضوءُ الإعلام السريع ليصطفيه إيراقُ الذاكرة الواعية القادرة على اختزان العطاء المتميز وتثمين المعطين المتميزين.
* *
تخرج في ثلاث جامعات أميركية بتخصصٍ نادر في زمنه وربما في زمننا.
وكانت نقطة الفصل في اتجاهه التأليفي تاليًا لمحاضرة للدكتور ميرسي كلاين عن تأريخ علم الرياضيات على مستوى العالم حيث لاحظ الدفاع أن المحاضر لم يشر إلى جهود علماء المسلمين خلال خمسة قرون بين 1200-1700 م فأجابه أنه لو حكى عن هذه الفترة لاستغرق الحديث عدة محاضرات لا جانبًا من محاضرة، وأوصاه بأن يتولى هذه المهمة فبرز فيها أبو عبدالله - كما يحب أن يكنى - وأصدر مؤلفات متعددة عنها قُرر بعضها في جامعات عربية وأميركية، وربطته صداقة عميقة بأستاذه هذا وكان حلمه أن يُسلم، وبالفعل فقد أسلم قبل عامين من وفاته معتدًا بالإسلام العقل والإسلام العدل والإسلام العلم.
(5)
لم يعرفه صاحبكم عن قرب لكنه كان من أوائل من كتب عنه في زاويته إمضاء ووثقها في كتابه ( إمضاء لذاكرة الوفاء ) الصادر عام 2011 م وحكى فيه عن مئة شخصية وشخصية وقال عن الأستاذ الدكتور علي بن عبدالله الدفاع تحت عنوان : الرياضي المؤرخ:
«لُقب – من تلاميذه ومحبيه وعارفي تميزه - «ملك التكامل» بعدما صار علمًا في الرياضيات وهو الذي كاد يدخل المعهد العلمي لولا استشارة جدته للإمام الشيخ عبدالرحمن السعدي بعدما افترقت رؤية الفتى ووالده فأشار الشيخ عليها بأن يلبوا ميوله ورغبته وكانت نحو المتوسطة وفي جيله ومن تلاه كانت المفاضلة بين دخول المعهد والمتوسطة على أشدها، وقد أبعد الأستاذ عبدالله العلي النعيم من عمله مراقبًا في المعهد العلمي التابع للرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية ( نواة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حاليًا ) لأنه يحض الطلبة على التسجيل في ثانوية وزارة المعارف ( وزارة التعليم الآن).
نقطة تحول مهمة قادته نحو بعثة تعليمية مبكرة إلى الولايات المتحدة بعدما قابل الملك سعود بثياب رثة فتنبأ له أنه سيستبدل رعاية العقول برعاية الغنم، ولم يمض طويل وقت حتى عاد الفتى بالشهادة الأعلى ودرس في الجامعة الأبرز وصار مثالًا للأكاديمي الباحث الذي وهب عمره للتعليم والتأليف سعيدًا أن في تلاميذه من أصبح مديرًا للجامعة التي يُدرس فيها.
لديه شهادتا بكالوريوس في الرياضيات وشهادتا ماجستير (واحدة في الرياضيات وأخرى في العلاقات الدولية ) وقبل أكثر من خمسة وأربعين عامًا حاز الدكتوراه في الرياضيات من جامعة فاندربلت 1972 م، ولم يكد يكمل عشر سنوات حتى حصل على درجة الأستاذية وزاول العمل الأكاديمي: عضو هيئة تدريس ورئيس قسم وعميد كلية وأستاذًا زائرًا في جامعات عربية وأجنبية ورئيسًا للاتحاد العربي للرياضيات والفيزياء.
* *
الأستاذ الدكتور علي بن عبدالله الدفاع، ولد في عنيزة عام 1358هـ - 1938 م – تخرج في ثانوية عنيزة، ودرس المراحل العالية والعليا في الولايات المتحدة وتقاعد عام 2008 م، ورغم تخصصه في الرياضيات البحتة والتطبيقية فقد أولى تاريخ العلوم عند المسلمين اهتمامه فحاضر فيها وألف عنها وله أكثر من تسعة وأربعين مؤلفًا، ومئات المقالات باللغتين العربية والإنجليزية، ومن أبرز كتبه :
الموجز في التراث العلمي العربي الإسلامي، العلوم البحتة في الحضارة العربية الإسلامية، إسهام علماء العرب والمسلمين في علم الحيوان، وفي علم النبات، وفي الصيدلة ، أعلام الفيزياء وأعلام الطب في الإسلام ،رواد علم الطب في الحضارة الإسلامية، تطوير علوم الأرض، كما شارك في ترجمة كتاب تايلر ويد : حساب التفاضل والتكامل للجامعات، وبعض ما ألفه مما سبق ذكره صدر باللغة الإنجليزية ، ومنه - في غير تخصصه - : مقدمة في الصراع العربي الإسرائيلي، كما هو عضو في عدد من الجمعيات التخصصية والمجامع اللغوية والموسوعات العالمية
يتكلم اللغة الإنجليزية كأهلها ويحاضر على طلبته بها لكنه يؤكد على التحدث بالفصحى ويصر على تجذير الانتماء لموروثها، ووعيناه زمنًا وهو يشارك كاتبًا مقاليًا متخصصًا في السعي لاستعادة الموروث العلمي العربي الإسلامي.
كان صغيرًا عندما اغترب عن بيئته المتدنية مدنيًا فلا كهرباء ولا طرقات ولا أسواق ولا خدمات فلم ينبهر بما رآه ولم يتنكر لمن رباه، ويقال إن تمسكه بالفصحى قد جاء استجابة لرغبة والدته التي كان لها دور في اهتمامه بالرياضيات؛ حيث كانت تطلب منه حل المسائل الرياضية بصوت مسموع وتساعده حين يستعصي عليه الحل.
كانت خاتمة ذلك الإمضاء القديم :
.. «يبدو مؤسفًا أن نحتفي بربع شاعر وسارد وكاتب وصحفي ثم نتأخر في أن نحتفي ب» أستاذ كبير» تروى عن عبقريته الرياضية حكايات تشبه الأساطير... فهل يرى منا في الأفق القريب ما يوازي قامته فأن نتأخر خير من ألا نأتي أبدًا»، وتحقق الرجاء بحمد لله؛ فقد كرم أستاذنا أبو عبدالله في مهرجان عنيزة الثقافي الرابع عام 1434هـ 2014 م بجانب الشيخ محمد العبودي والدكتور عبدالله بن يوسف الشبل والسفير الشاعر محمد بن فهد العيسى والدكتور عبدالرحمن العثيمين برعاية وحضور أمير منطقة القصيم حينها سمو الأمير فيصل بن بندر ابن عبدالعزيز -أمير منطقة الرياض حاليًا- وها نحن اليوم نحتفي بأستاذنا في أهم مناسبات التكريم الثقافية بمهرجان الجنادرية وتتويجه بوسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، كما كرمته جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، والمؤمل أن نلتفت إلى تكريم أعلامنا ورموزنا زمن صحتهم ونشاطهم وعطائهم كي يشعروا بالوفاء مقابل ما قدموه فتقدموا به
(6)
خاتمة
* *
في المؤدى العام نستعيد محددات العقل العربي التائه بين النظر إلى السماء أو التحديق في الأرض ؛ فكذا جاءت معادلة عالم الرياضيات حين اختار مدرسة مدنية وقرر الاغتراب الحضاري وعاد ليحمل مهام المدرسة الدينية والانتماء الوطني ، وكذا تحملنا الأفكار والأشخاص والأشياء كما قررها مالك بن نبي، وكذا تصنعنا -في منظور آخر-: العقيدة - القبيلة - الغنيمة مثلما افترض محمد عابد الجابري وخصص لها دراساته في نقد العقل العربي تكوينًا وبنيةً وعقلًا سياسيًا وأخلاقيًا ، كما تبقى تجربة أستاذنا الدكتور علي الدفاع بمنظار زمنها كما بإضاءات شخوصها ملهمة لمن لم يعقه ظرف أو يغمض له طرف فاعتد واعتمد وعمل وبذل فحقق ما تفوق به على جيله وما صار به أنموذجًا لأجيال.
وبعد:
فقد قاده التحدي إلى التصدي والجهل إلى العلم والإملاق إلى الآفاق والبيئة الهادئة المهادنة إلى الحياة المنطلقة المملوءة بالفرضية والنظرية والقانون والمثال،وعاد بالعلم واكتسب الخبرة واستعاد التراث فقاده الوعيُ الفطري والعلم المكتسب إلى اكتمال أدوات البحث فعلَّم كما تعلم ونال مثلما بذل وتميز باحثًا وآن أن يصير مبحوثا.
وبموازاة خط النهاية وردتني أبيات من شاعرنا الكبير الأستاذ أحمد بن صالح الصالح ( مسافر ) وجهها إلى أبي التكامل ابن عنيزة العالم الدكتور علي العبدالله الدفاع -كما قدم نصه-:
أبا التكامل ما ضلت بك السُّبلُ
كنت المجلِّي فطاب الوِردوالصَّدرُ
حلَّقت في ملكوت العلم مجتهدًا
فجئتَ نجم سماء العلم إذْ عثروا
حلَّقتَ في فلك الأرقام طيِّعة
أرسانُها وتباهى القوس و الوَتَر
عنيزة فيك فخر أن تكون لها
ابن الًوفاء وأن تسمو بك السِّير
وأن تُحَلِّق في أجوائها علَماً
تشعُّ في فلك الأرقام لا تذر
طابت مساعيك عِلْماً في مناهجه
وطبت فخرًا به الفيحاء تفتخر
** ** ** **
هوامش:
إمضاء لذاكرة الوفاء: إبراهيم بن عبدالرحمن التركي - جداول - 2011م- ص 221-222
مقال للكاتب: هل الظل هامش أم متن ؟ - صحيفة الجزيرة - 6 ديسمبر2018 م
** ورقة قدمت لمهرجان الجنادرية 33 بمناسبة تكريم د.علي الدفاع
السبت: 15/04/1440 هـ 22/12/2018 م
** **
- د. إبراهيم بن عبدالرحمن التركي