د. محمد بن عبد الله ال زلفة
في صبيحة هذا اليوم الرابع من شهر ربيع الآخر 1440هـ قدم إلى رحمة الله سعيد بن محي بن أحمد بن طالع آل أحمد عن عمر يناهز 117 سنة من سكان قرية آل عمرة التابعة لمحافظة أحد رفيدة.
كل نفس ذائقة الموت وإن طالت ببعضهم الأعمار وكل يوم نفقد عزيزاً ونفقد رجلاً أو امرأة ذات مكانة فكلنا إلى الموت سائرون.
ولكن هناك ممن نفقدهم ولهم في ذاكرتنا معنى بل لهم في ذاكرة الوطن مكانة ويأتي في مقدمة هؤلاء ممن استشهد من أجل الوطن وشهداء هذا الوطن كثر وكثر جداً من اليوم الأول لتأسيسه وإلى حد هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه المرثية لآخر المحاربين في حرب اليمن التي فُرضت علينا في عام 1352هـ أي قبل ثمانية وثمانين عاماً. وكان هذا الرجل آخر الأحياء إلى ليلة البارحة ممن شارك في تلك الحرب. ومما أوليته اهتمامي بحكم تخصصي كمؤرخ توثيق أسماء الرجال ممن شاركوا في حروب توحيد المملكة حيث وجدت أن هذا الجانب من تاريخنا الوطني لم يحظ بالاهتمام الذي يليق بضخامة ما قدموه أولئك الرجال من تضحية ومن أجل هذا قمت في السنوات الأخيرة بالبحث والتنقيب وبكل ما وفرته لي الظروف والصدف عن كل ما يدلني على وثيقة أو سجل أو معلومة من مصادر موثوقة تحمل اسم أو أسماء لأولئك الرجال الأبطال الذين بجهدهم وعرقهم ودمهم ومعاناتهم أقاموا لنا وطناً عظيماً نفاخر به اليوم بين جميع الأوطان. لم تكن المهمة سهلة بل كانت من أصعب المهام التي واجهتني أثناء مسيرتي في البحث عن مصادر تاريخنا الوطني لم يكن الأمر بتلك الصعوبة أثناء بحثي في أرشيفات دولية منظمة في العديد من البلدان. ولكن الصعوبة في البحث عن مصادر تاريخنا الوطني في بلادنا من أشد الأشياء صعوبة وأكثرها ألماً على قلب المؤرخ الباحث عن الحقيقة ويزيد المؤرخ ألماً صعوبة أماكن وجود هذه المصادر وما يقال أن كثيراً منها تعرض للعبث أو الإهمال وعدم الاهتمام أو تعمد في الإخفاء لأسباب واهية وأنا أميل إلى هذا القول وليس إلى ما يقال إن الدولة لم تكن دولة كتابة وتوثيق.
وهذا القول غير صحيح اطلاقاً ويثبت صحة ذلك ما تم العثور عليه من وثائق وسجلات بقوائم أولئك المحاربين معظمها ساقت إليه الصدف ونتيجة هذا الجهد من البحث المضنى توفر لي قوائم بأسماء ما يربو على ثلاثة عشر ألف اسم من المحاربين القدماء لتأسيس وحدة هذا الوطن. ولا يزال البحث مستمراً عن المزيد ما دام في الجسد روح تنبض.
في احتفالنا بيومنا الوطني لعام 1438هـ تم الاحتفال بافتتاح القائمة التذكارية بتوحيد المملكة في مركز آل زلفة الثقافي والحضاري بمحافظة أحد رفيدة.
برعاية كريمة من لدن سمو أمير منطقة عسير وسمو نائبه وتضم القاعة جداريات بأسماء رجال توحيد المملكة مدعمة بالوثائق والصور التاريخية لرموز أولئك القادة.
وكل أولئك قدموا جميعهم إلى رحمة الله وبعد الاستقصاء والتأكد ثبت لدينا أن هناك رجلاً واحداً من أولئك الرجال لا يزال حياً وقد تجاوز عمره 117 سنة. ذهبت لزيارته في بيته الذي يقيم فيه مع أبنائه وأحفاده البررة حيث يولونه أعظم أنواع العناية جزاهم الله خيراً وهو بذلك جدير.
مثل هذا الرجل الذي أرى فيه تجسيداً لرفاقه المحاربين من اجل الوطن في تلك المرحلة التاريخية المهمة. ماذا يفرض علينا الواجب القيام به تجاهه فمهما حملنا له من الهدايا لا تجزيه ومهما أقمنا له من الولائم لا تعني شيئاً.
ثم القرار أن نقيم له احتفالاً يليق بمحارب قديم وآخر لإحياء من ذلك الجيل وذلك تزامناً مع احتفالنا باليوم الوطني لعام 1439هـ الأبطال يكرمون في يوم الأوطان، وثم ذلك ولم يكن يرحمه الله قادراً على حضور الاحتفال بتكريمه فأناب رحمه الله أولاده وأحفاده وكان احتفال التكريم في مركز آل زلفة الثقافي والحضاري وبرعاية من محافظ أحد رفيدة.
وبحضور جمع غفير ممن علموا بتكريم آخر المحاربين ولم نجد أغلى ما نهدي إليه بهذه المناسبة إلا بندقية قديمة بعد التأكد أنها من بنادق أحد المحاربين الذين شاركوا في تلك الحرب.
كان هذا الرجل آخر المحاربين الذي نودعه اليوم للحاق برفاقه من فيالق الشهداء في سبيل هذا الوطن. كان رحمه الله كثيراً ما تحدث إلى أبنائه وأحفاده وكثير من محبيه وهم كثر أحاديث مهمة عن تلك الحرب وظروفها ودوره ودور رفاقه فيها.
ويحدثهم عما وفرته له الوحدة الوطنية الذي حارب جندياً في توحيدها من نتائج عظيمة مكنته من العمل في الطائف والرياض وأماكن أخرى متباعدة من المملكة الموحدة.
وكان آخر عمل قام به هذا الرجل وقد شارف على الثمانين من عمره عامل بناء وسائق معدة أثناء بناء قاعدة الملك خالد الجوية في خميس مشيط وكأنه بذلك يقول ذهبت ورفاقي سائرون بأرجل حافية لصد العدوان على بلدنا واليوم نبني قاعدة لطائرات متقدمة يقودها شباب هم أحفاد المحاربين القدماء لصد العدوان الذي لم ينفك طوال هذه السنين وحتى اليوم من تهديد وحدة وطننا.
رحم الله آخر المحاربين وأسكنه ورفاقه الشهداء جنات وعدوا بها من لدن رب العزة والجلال.
وآمل أن يخلد ذكراه بتسمية شارع من شوارع محافظة أحد رفيدة وهذا أبسط ما نقدمه لآخر المحاربين.