د.فوزية أبو خالد
أكتب هذا المقال على حلقتين من رسالة واحدة. وإن كان لكل حلقة استقلاليتها وإضاءتها وخطها وحبرها وعتمتها، فهما جناحان لطائر المعرفة. في الحلقة الأولى أكتب عن فوز أميمة بجائزة نجيب محفوظ من ثلاثة أبعاد مع أنه يحتمل أكثر من ذلك. أما الحلقة الثانية فأكتب فيها قراءتي الخاصة لسر من أسرار هذا الفوز.
الحلقة الأولى:
أولاً، قيمة الفوز بجائزة تحمل اسم نجيب محفوظ أي قيمة المنجز الروائي العربي في الأدب الحديث منذ منتصف القرن العشرين لما يشارف ربع القرن الواحد وعشرين. فمن المهم هنا الملاحظة بأن هذه القيمة لا تأتي فقط من كون نجيب محفوظ الأديب العربي الوحيد الذي نال جائزة نوبل للأدب في القرن العشرين وحسب برمزية العالمية المستحقة لأعماله ولكنها تأتي أيضاً من طبيعة السرد لمجمل إنتاجه الروائي التي تضفر في شكل فريد من نوعه القيمة السيسيولوجية بالقيمة الفنية من داخل مصبات الحياة نفسها. فروايات نجيب محفوظ لا يميزها فقط ذلك الانتماء الجذري والعضوي للحارة المصرية بمعناها الأنثروبولوجي والإثنوجرافي في إيقاعها اليومي ولكن يميزها أيضاً انتماء لغة السرد الروائي للحارة المصرية بالمعنى الابستمولوجي واللغوي. فتحدي محفوظ ونجاحه كان مزدوجاً بالتعبير عن الحدث السياسي والسياق الاجتماعي والمرجعية التاريخية للحياة العربية المصرية من ناحية المضمون وبالتعبير من ناحية الشكل عن ذلك المضمون الشعبي بلغة الحارة وتحويلها إلى لغة أدبية مكتوبة بفنية معبرة دون أن تفقد عفوية المنطوق والشفهي وبساطته وجماليته بل بتسليط الضوء عليها وإعادة الاعتبار المعرفي لها. وجائزة باسم نجيب محفوظ بهذا المعنى وبالكم والكيف الروائي العريض لإنتاجه وبمكانته في تاريخ الأدب الروائي العربي الحديث تجعل من الفوز بجائزته فوزاً بالقيمة المعنوية لهذا المنجز منذ أربعينات القرن الماضي لعشرينات القرن الحالي. والواقع أن أعمال أميمة الروائية/ البحريات/الوارفة وزيارة سجى قد أحرزت في وقت فتي من عمر كتابة الرواية بالمملكة العربية السعودية منجزاً مضاهياً وإن لم يكن بنفس الإتجاه الفني بطبيعة الحال لاختلاف الأجيال، الزمان والمكان والمرجعية المعرفية والميدانية واختلاف الحالة الروائية نفسها، فإنه منجز يحسب له الحفر في واقع النساء في ثلاث تجارب روائية متنوعة على مستوى الموضوع وعلى مستوى اللغة. بما عمل بتراكم تصاعدي على إعادة الاعتبار للكتابة بالحبر الأبيض/ الحليب وببحة النساء وأنوثة المرأة على حد تعبير الناقدة النسوية الفرنسية هيلين سيكسو صاحبة ضحكة ميدوسا (Helen Cixous). هذا بالإضافة للنقلة النوعية على ذلك المنجز التي قدمتها أميمة في رواية مسرى الغرانيق في مدن العقيق / دار الساقي 2018 / الرواية الفائزة، في محاولة تنويع وتعدد خطابها الروائي واشتغالها على بحالتاريخي بأدوات المستقبلي روائياً إن لم يكن للقطيعة معه فالعدم الارتهان له. وكأنها محاولة حبرية طائشة ومحسوبة بتأنٍ في نفس الوقت «للتأييس» أي خلق حالة متعمدة من اليأس مما يُصعب استعادته ليس فقط لأن الماضي لا يعود ولا يستعاد ولكن لأن عملية البحث والاستقصاء الروائي تكشف لنا أنه نادراً ما جرى الخروج عليه أو منه. وهذه في رأيي الشخصي محاولة سردية باذخة لكتابة رواية الأمل.
ثانياً، قيمة الفوز بجائزة تصدر عن مؤسسة أكاديمية عريقة مثل الجامعة الأمريكية بالقاهرة أي قيمة إقامة علاقة حيوية بين الأدب وبين مؤسسة أهلية للمعرفة العلمية مما يرجح استقلاليتها ويخلق علاقة تكاد تكون مفقودة بين المعرفة العلمية والمعرفة الأدبية بذلك المقياس الموجع الذي اسمه الموضوعية. والمتوخى عادة أن هذا النوع من الجوائز لا يكتسب أهميته من الآلة الإعلامية بوسائلها الورقية والإلكترونية ولا من «تكريم حكومي» له حساباته، بقدر ما تستمد مصداقيته من مصداقية الطبيعة العلمية لعمل المؤسسة ومن مناخ العمل الأهلي الذي يفترض أنه بيئتها الطبيعية الذي قامت لتمثيله.
ثالثاً، قيمة الفوز بجائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية عربياً وعالمياً وعلى أهمية هذا التواشج الذي رسخه تاريخ الجائزة غير الطويل بين العالم العربي والعالم في عدد من الأعمال الفائزة سابقاً من فلسطين والجزائر ومصر وسواها من البلدان العربية، فإن له أهمية خاصة سعودياً لجدة وجودنا على المنصات العربية والعالمية ولأنه يفتح المجال لعمل روائي يخرج حاراً ممهوراً بهواء ورمل الجزيرة العربية ليتحول إلى سِفر عالمي بعشرات اللغات الحية فيما يقارب معظم قارات الكون اليوم. فالرواية حين تترجم لا تترجم لغة إلى لغة أخرى بل تنقل وطناً وحلماً وأرغفة وبشراً إلى مسارح بشرية وثقافية وجغرافية جديدة.
وهكذا نخرج من حجر اليمامة لنجوب العالم على أجنحة الحبر بصحبة أميمة الخميس قامة وقلماً.
نكمل الأسبوع المقبل..