منصور ماجد الذيابي
عانت بعض الدول العربية من ويلات الحروب الأهلية التي قامت على أنقاض الثورات العربية المدعومة عسكرياً أو سياسياً من قطبي القوة الصاروخية النووية اللذين يتنافس كل منهما على تحقيق مكاسب عسكرية وسياسية واقتصادية تسمح لهما بالوجود والنفوذ في المنطقة العربية لفرض أجندتهم السياسية على الدول التي تئن تحت وطأة الثورات والقلاقل والحروب.
وكما ذكرت في مقال سابق بعنوان «الحرب على الموصل، وشعار الحرب على الإرهاب»، فقد تسلطت هاتان الدولتان النوويتان على بلدان الربيع العربي واستخدمت كل منهما مصطلحات ومفاهيم سياسية مختلفة لتمرير وتبرير التدخل عسكريا في بعض الدول، فتارة تستخدم مصطلح «الديموقراطية» لإثارة النعرات الطائفية وتشجيع الثورات، وتارة تستخدم مصطلح «مكافحة الإرهاب» لتبرير وجودها عسكرياً في بعض الدول كالعراق وسوريا وليبيا وغيرها.
عندما تدخلت أمريكا عسكرياً في العراق عام 2003 وأطاحت بنظام البعث العراقي بذريعة تدمير أسلحة الدمار الشامل، شكلت لها آنذاك إدارة حكم مدني بقيادة بول برايمر تحت مظلة «إعادة إعمار العراق»، وساهمت بالتعاون مع إيران بتشكيل حكومة عراقية موالية بل وتابعة للنظام الحاكم في طهران. أبرمت أمريكا خلال تلك الفترة اتفاقيات مع الحكومة الجديدة ومن بينها الاتفاقية المشهورة «النفط مقابل الغذاء».
ومن هنا يتضح لنا أن الغزو الأمريكي للعراق لم يكن بهدف تدمير الأسلحة الكيميائية بدليل إعلان أمريكا وحليفتها بريطانيا لاحقاً عن خلو العراق من تلك الأسلحة، وبأن الاحتلال الأمريكي لم يكن ليحدث لولا المعلومات الاستخباراتية المضللة. ولكنها عادت لاحقاً في عام 2016 بطلب من الحكومة العراقية للمساعدة في القضاء على تنظيم داعش في الموصل، حيث نفذ التحالف أكثر من عشرين ألف طلعة جوية أدت إلى انفجار أزمة إنسانية تمثلت في قتل المدنيين ونزوح الملايين منهم بحثاً عن مكان آمن لاسيما بعد دخول قوات الحشد الشعبي للمدينة.
وبعد اندلاع الثورة السورية ودخول القطب المنافس الآخر عسكرياً بحجة ملاحقة تنظيم داعش الإرهابي، أرادت أمريكا أن تتواجد أيضاً على الأرض السورية وتدخل في دائرة الصراع بنفس المبررات التي دخلت بها العراق سابقاً لعل وعسى أن تستفيد من وراء الأحداث الدامية والنزاعات المسلحة في هذا البلد العربي الذي سمح نظامه بدخول ما لا يقل عن عشرة جيوش أجنبية منها الحرس الثوري الإيراني وميليشيات الحشد العراقية، وقوات تابعة لوحدات حماية الشعب الكردية -المكون الرئيسي لقوات سوريا الديموقراطية- وحزب العمال الكردستاني PKK وداعش, وحزب الله وتركيا وروسيا وائتلاف دول الناتو وغيرهم.
كل هذه الجيوش ما زالت تتصارع فيما بينها منذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011م. غير أن الجيش الأمريكي، وهو أحد هذه الجيوش قد انسحب مؤخراً من ساحة الصراع المسلح. فلماذا ينسحب ومن سيكون المستفيد من هذا الانسحاب؟
قد تلتقي أحياناً مصالح الدول المشاركة في الصراع وقد تتعارض المصالح في أحيان أخرى، فالنظام السوري الحاكم الذي سمح للغزاة بدخول أراضيه ليس له من مصلحة إلا البقاء على رأس السلطة على حساب قتل وتشريد وتهجير المسلمين السنة من مناطقهم.
وأما تركيا فليس لديها من مبرر إلا محاربة وحدات حماية الشعب الكردية التي تدعم حزب العمال الكردستاني وتأمل بتشكيل حكم ذاتي لها في الشمال السوري على الحدود مع تركيا.
وبالنسبة لطهران فكانت تريد أن يكون لها وجوداً عسكرياً دائما في بلاد الشام لتحكم قبضتها على الدول العربية المطلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
لهذا السبب تدخلت أمريكا في ساحة الصراع لمنع إيران من استثمار وجودها عسكرياً في سوريا لتهديد أمن دول المنطقة.
كما أن الوجود الأمريكي يأتي لدعم الأكراد لوجيستياً وعسكرياً بالعتاد لاستخدامهم كورقة ضغط على تركيا من ناحية أخرى. ولربما يعود انسحاب القوات الأمريكية إلى وجود تفاهمات مع الروس، وذلك مقابل إعطاء الروس دور البطولة المطلقة في سوريا، غير أن سبب الانسحاب المعلن لاستهلاك الرأي العام كما ذكرت الإدارة الأمريكية هو انتصار أمريكا في الحرب على داعش، وبالتالي انتفاء مبرر أن تبقى شرطيا مجانيا في المنطقة كما جاء على لسان الرئيس الأمريكي. فهل وصل الأمر إلى حد أن يتجرأ الغزاة بطلب المال مقابل احتلالهم أو تدخلهم عسكرياً في الأرض والمياه والسماء العربية بذريعة الحرب على الإرهاب؟
أتذكر في هذا السياق المقولة المشهورة لولي العهد السعودي الأمير البطل محمد بن سلمان بن عبدالعزيز حينما صرّح لوكالة بلومبيرغ الأمريكية أن المملكة العربية السعودية لا تدفع مقابل أمنها، وأن السعودية لا تشتري السلاح من أمريكا مجاناً.
مما لا شك فيه أن هناك تفاهمات واتفاقيات بين القوتين النوويتين والجيوش التي تدور في فلكها وتصول وتجول قواتها في سوريا. فإيران مثلاً تتحالف مع روسيا سياسياً وتنسق عمليات ميليشياتها مع القواعد الروسية عسكرياً، في حين تلتزم تركيا بالتنسيق مع قيادة القوات الأمريكية قبل القيام بأي عملية عسكرية ضد مواقع وحدات حماية الشعب الكردية على طول الحدود الشمالية مع سوريا. نفهم من ذلك أن إيران وتركيا لا تتصرف أي منهما بمعزل عن اللاعبين الرئيسيين في الساحة السورية الملتهبة. ولكل من هذه الدول الأربع أجندات استراتيجية تعتمد على الشراكة في تحقيق المصالح الاقتصادية والأهداف الجيوسياسية لكل طرف حسب نفوذه وحجم قوته في ميدان المعركة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا لمجابهة خطر أي عدوان خارجي والتصدي له هو كيف تتحرك الدول العربية وفقاً لآليات عمل دفاعي مشترك، وما هي الخيارات التي تملكها الدول العربية لصد أي تدخل عسكري محتمل ودرء أي تهديد مرتقب من جانب الدول المارقة ذات النوايا التوسعية والأطماع الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط عموما؟
لا شك أن المملكة العربية السعودية هي الدولة الأقوى في المعادلة العسكرية لدول الشرق الأوسط، ولذلك تعقد عليها شقيقاتها الدول العربية الأخرى آمالاً عريضة لحمايتها وإرساء الأمن والسلام في بلدانها كما حدث من قبل عندما تدخلت السعودية عسكرياً عام 1991م لتحرير دولة الكويت الشقيقة، وأيضاً عندما دخلت قوات درع الجزيرة في 15 مارس 2011 بناء على طلب من حكومة مملكة البحرين الشقيقة حيث دخلت القوات السعودية لإجهاض المخطط الإيراني لقلب الحكم هناك. وأيضاً كما يحدث الآن من جهود كبيرة للتحالف العربي بقيادة السعودية لإجهاض المخطط الإيراني في اليمن الشقيق وتحريره من قبضة النفوذ الفارسي الذي يمارس عبر العملاء والمرتزقة من الجماعات الحوثية المسلحة.