د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كلما طال الأمد عن ابن زيدون، وأشحت نحوه بوجهي تمام المتون، ما يلبث قلمي إلاّ ويكتب السواد على المداد، عن منازل ابن جهور وابن عباد، وإن كان في الإعادة ملالة، فإن المحب لا يمل، والعاشق لا يكل، فإن طابت الدنيا فاروِ منها ظمأك، وإن مالت فأرسنها بأملك، والعمر سويعات وينقضي، فاغنم فيها ما استطعت بفعل الخير، والعمل الصالح، وإيناس النفس.
بعد أن سجن الوزير الشاعر الأديب السفير ذو الوزارتين أبو الوليد ابن زيدون في قرطبة، وفرّ من سجنه واختفى، كتب رسالة إلى صديقه أبو بكر بن مسلم قاضي قرطبة، والرسالة في سبكها وجمالها لا تقل عن رسالتيه المشهورتين، الرسالة الهزلية، التي كتبها على لسان ولاّدة بنت المستكفي إلى غريمه ومنافسه على قلبها الوزير أحمد بن عبدوس، والرسالة الجدية التي كتبتها إلى ابن جهور، يتلمس منه الصفح، فأصبحت رسائله خالدة، كما هو شعره ونثره.
لقد كان أبوبكر بن مسلم من اللائمين له على الفرار، وقد خاب ظن ابن زيدون فيه، لأنه لم يقف معه وقت حاجته، ولإعانه زمن فاقته، وهذا طرف من الرسالة مع شيء من التصرف للتسهيل والتيسير، يقول: «ابدأ أولاً بشرح الحافز إلى ما صنعت، إذ بلغني أنك أحد اللائمين لي عليه، ومن أمثالهم ويل للشجي من الخلي، وهان على الأملس ما لاقى الدّبر».
والمثل المتداول عند العرب «ويل للشجي من الخلي» والشجي هو المهموم أو المكلوم، والخلي هو صافي الذهن الخالي من الهم، اللائم لصاحبه من دون تحقق من بواطن الأمور، كما أن الشجي هو المخذول من صاحب كان يتوقعه في الشدة سنداً، وفي فاقته يراه مدداً، فلا هو واساه فيما يعتريه، ولا نأى بنفسه عن لائميه.
واختلفت الروايات عمن أطلق هذه الجملة فصارت أثراً، والأصوب أنه أكتم بن صيفي في بداية بزوغ نور الإسلام، حيث أرسل ابنه حبيشاً ليأتيه بخبر ما حدث في مكة، فعاد ابنه وروى له ما شاهد وسمع، فأيقن في داخله أن الإسلام حق، وكان قد كبر سنه، وشاب شعره وشاحت الغواني عن النظر إلى محياه، وجمع قومه وذكر لهم ما نقله ابنه، وقد استهواه أمران؛ ترك عبادة الأوثان، والتحلي بالأخلاق، وأشار إلى ما تحدث به أسقف نجران صفته، وما تحدث به سفيان بن مجاشع عنه، وهو يرى أن يكون قومه السباقين إلى ما يراه حقاً وخيراً، وإذا لم تصدق روايته فقد غنموا ما جاء به من حث على مكارم الأخلاق، لكن مالك بن نويرة زعيم من زعماء قومه، قال: قد خرف شيخكم، فقال أكتم قولته المشهورة التي سارت مثلاً على ألسن الركبان: «ويل للشجي من الخلي، والهفي على أمر لم أشهده»، فصارت مثلاً، وكلنا نعرف ما صار لمالك بن نويرة على يد خالد بن الوليد فيما بعد.
والمثل الآخر الذي أورده ابن زيدون في رسالته: «هان على الأملس ما لاقى الدَّبر»، والأملس هو صحيح الظهر الذي لا علة فيه، فهو أملس صافٍ من المرض، خصوصاً أمراض الجلد، أما الدَّبر فهو الذي أصاب ظهره الدّبرة، وهي القرحة -عافنا الله وإياكم-، وكانت الأمراض الجلدية منتشرة في وقت ليس فيه دواء ناجع، ولا فهم نافع، يتقى به حدوث مثل هذه الأمراض، لاسيما أن متطلبات الحياة في ذلك الزمان قد تعرض البعض للأمراض الجلدية، فالجلد هو خط المناعة الأولى الذي يحتمي به الإنسان.
ومثل هذا المثل كما المثل الذي سبقه يضرب لمن يلوم صاحبه، في وقت يحتاج فيه إلى المناصرة أو المواساة. أما العدو كما يقول ابن زيدون في قصيدة من قصائده الخالدة، فهو يأتي بثوب الزائر الذي يواسي، لكن حقيقته غير ذلك، فهو يتحسس لعل المصاب جلل، ولعل الصحة استبدلت بسقم، فكأنما هو ذئب ينتهش بالأضراس أو ينتهس بالأسنان، يقول:
أذؤب هامت بلحمي
فانتهاش وانتهاس
كلهم يسأل عن حالي
وللذئب اعتساس
واسترسل في رسالته فقال: «وأعاتبك على انفصالك عني، وبراءتك أمد المحنة مني، عسى أن نتلافى عوداً، كما أضعت بدءاً، وإن كنت في ذلك كدابغة وقد حلم حلم الأديم».
سبك بديع، ومعنى رفيع، وعتاب محمود، لم يتجاوز فيه الحدود، فهو يضرب مثلاً بمن يدبغ جلداً في حالة رثة يكاد يتمزق.
هذا النسق من الإبداع في القول والمعنى، خلده التاريخ، وما حداني إلى إيراده، هو قصور البعض عن الإتيان بمثله، واقتصارهم على ما دونه، واكتفاء البعض بإيصال المعنى، دون طاروة في البناء، واستخدام البديع، ونثرها كزهور الربيع، فالجمال جاذب، والقلب للحسن راغب.