جرت العادة، أن يكون الإنسان محكوماً إلى حد كبير -عندما يعطي رأياً أو يخص تجربة- بما سمعه وشاهده في حياته أو في مرحلة منها، حتى ولو لم يكن طرفاً فيه!.. وحتى لو حاول أن يقول رأياً موضوعياً ومنصفاً، فستجده لم يخرج تماماً من ما اختزلته ذاكرته ومشاعره، فيصيغ آراءه تحت وقع ما سبق ذكره، بالرغم من أنها ليست مقصودة، ولكن هذا هو الإنسان، ولذلك الإنصاف والموضوعية، حمل ثقيل ولا يأتي إلا من نفوس عظيمة، فقط اقرأ وشاهد وأسمع ما حولك هذه الأيام، لترى كم هي ثقيلة، وثقيلة جداً.
بعد مرور أكثر من ستة أشهر على إقامتي في أمريكا، مبتعثاً من وزارة التعليم، في برنامج خبرات، وهو برنامج يهدف إلى رفع كفاءة المعلمين المهنية، والاستفادة من تجارب الدول المتقدمة تعليمياً وإدارياً، إلخ، (ربما في مقال آخر أكتب رأيي واقتراحاتي للبرنامج)، بعد هذه المدة، أقول كنت أحب وطني السعودية، لا أقول أكثر من أحد ولا أقل منه، ولكن الحب الفطري، الذي قد يشاركني فيه ملايين السعوديين، ولم تكن أمريكا صادمة لي أو مبهرة بكل ما فيها، فقد جبت العالم شرقاً وغرباً، وكانت هي المحطة الأخيرة بعد أكثر من خمسة عشر سنة من الترحال، ولكني كنت عاماً بعد عام أحب وطني أكثر، وكنت أقول، من لم يعرف سوى وطنه، لم يعرف وطنه!! لن أزكّي أحداً ولا أطلب حاجة، ولا أجعل من أحدٍ نبياً مرسلاً ولا ملكاً منزلاً، ولكنها خلاصة جميع ما مر بي في حياتي، على مختلف الصور والأشخاص والأماكن، وقراءاتي ومشاهداتي، وما قيل وما لم يُقل؛ هنا في أمريكا.. رأيت السعودية! وكأن مشاعري ما قبل أمريكا تجاه وطني، كانت اختباراً لصدق هذه المشاعر! أعاني في وطني من الحفر في الشوارع، من زحمة السير -ربما لها أسباب كثيرة- من البيروقراطية الإدارية ومن ومن..، ولكنهم في أمريكا يعانون، وفي بوركينافاسو أيضاً، وفي جزر القمر، وليس أخيراً.. في اليابان! تختلف من مكان لآخر، ومن معاناة لأخرى، ولكن يعانون! عرفت أنهم في أمريكا قد يخفون أمولاً في منازلهم تهرباً من الضرائب، ثم يذهب في اليوم التالي لينتخب ويدلي بصوته! قد أقول بأن الرقابة العامة والقانون، صارم عندهم، وهذه حقيقة، جعلت من الجميع يخشى الخطأ، لا إيماناً منه بأن هذا خطأ، بل خوفاً على ماله أو إقامته!.. ما أقوله عن وطني، قد يقوله أيّ مواطن عن وطنه في أيّ مكان، لا يمتاز كلامي عن كلام أحدٍ بشيء، ولا أدعوك لتؤمن به، ومن حقك رفضه، أنا فقط أقول، فوائد برنامج خبراتي المباشرة واضحة وملموسة، بالنسبة لي، كان من أجمل فوائده غير المباشرة، تيقنت من أن حبي لوطني، ليس له علاقة بالحنين والغربة... إلخ، بل لأن تلك البلاد ظلمناها بعدم الافتخار بها علناً، وبالتصريح بهذا الحب جهراً، كانت بلادي صبورة جداً على مكابرتنا على هذا الحب، بلاد لها تاريخها وحضارتها ورجالها ونساؤها، من شظف العيش إلى هنيئة ولذيذة، لم يكونوا طارئين يوماًَ ولا دخلاء ولا مهاجرين ولا أذلاء، بل كانوا أهل صبر وكرم وإباء. عائلتي من جنوب المملكة،عايشتُ شيئاً من شظف العيش أو بصراحة نعيم العيش مقارنةً بما عاشه والدي -رحمه الله-، لكني كنت دائماً أسمع وأرى تقدير الجميع، لهذه البلاد ولملوكها، ما حدث في بلادي خلال الأربعين سنة إلى الخمسين سنة الماضية، هو نقلةٌ جبارة لم تحدث لكثير من البلدان، بنفس القدْر والقُدرة! عانينا من جلد الذات كثيراً، وربما كان بحسن نية، لكن ما الفارق الذي سوف يحدث لو امتنّينا لبلادنا، وساهمنا ولو بكلمة طيبة، وتذكرنا أننا نحن كأفراد، هل استقمنا تماماً في كل أمور ديننا ودنيانا، لنطلب كمالاً، ممن يواجه كل شيء بالنيابة عنا! {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}، آية تقرأ إلى قيام الساعة، أستشهد بها هنا، لأشكر الله أولاً على نعمة السعودية، وثانياً لأقول من حق بلادي عليّ، أن أكون لها مقدراً مشاركاً، ساتراً صابراً.. فقد قالت لي سيدةٌ عظيمة ذات يوم باللهجة العاميّة: «النيّة الطيبة ما تضيّع صاحبها».
** **
- نيوجيرسي