عبد الله الماجد
لقد غاب هؤلاء الأحباب في المقبرة، وها هو دليل الهاتف العمومي، يؤكد هذا الغياب، بينما مفكرة الهاتف الخاص، تستبقي هذه الأرقام والأسماء الدّالة عليها، عبر مشاعر إنسانية تستدعي غيابهم، وها هو يُعبر عن هذه الخوالج الإنسانية:
«قررت شطب هذه الأرقام، ها أنا أمتشق القلم، ها هو لعابه يسيل، لكن رجفة مفاجئة اجتاحت يدي، وخفق قلبي، وجه أبي يحتل الأحرف الدالة على اسمه، وجه أخي يُطل من كل حرف من حروف اسمه، الأصدقاء الذين عبروا إلى الضفة الأخرى متحدون لأول مرّة، وإذا بي أمامهم وجهاً لوجه» (ص 45).
يُتيح لنا أسلوب «المخالفة الزمنية» الاستباقي، في هذه القصة المكثفة أسلوباً ولغة، المحكمة فنياً. أن نتوقف عند ما يمكن أن نُطلق عليه «إحداثيات الموت» التي تذكرنا مع الراوي، بالموت وبمن رحلوا. فبعد أن تم التغيير المتعمد، بالخروج من ترتيب الحدث، الذي بدأ باستعراض أرقام هواتف الأهل والأحباب ممن رحلوا، وهي لا تزال تحتل مكانها في مفكرة الهاتف؛ نجد أنفسنا نَمرّ عبر طرق كلها تُذكرنا بالموت: المقبرة، الحلاق الذي مات كما يموت الجميع. بيت العم عبد الله بن إلياس، وتلك الفسحة أمام مستقر «مجلس العصرية» وقد أقفرت من روادها، نوافذ البيت مغلقة إلى الأبد، ولوحة كُتب عليها: «للإيجار». ثم ينتهي الطريق إلى المستقر «المقبرة».
المصطلحات الواردة في هذه الدراسة:
الاستباق: Prolepsis
أسلوب المخالفة الزمنية, داخل السرد, ويتقابل مع الاسترجاع, «فهو نظرة خاطفة تستشرف الأحداث التي تروى لاحقاً, وقد يكون على شكل حلم أو تنبؤ أو افتراض متوقع بشأن حدث ما في المستقبل» (معجم مصطلحات, ج2, ص 15, مجمع اللغة العربية, القاهرة, 2014). والاستباق يدل على سرد حدث لاحق, لإحداث نوع من التشويق. وإذا ما تقابل مع الاسترجاع والمخالفة الزمنية, فإنه يتيح للكاتب تنويعاً في بناء الأحداث داخل النص, فتتحول الصياغة الاسترجاعية إلى استباقية, والاستباقية إلى استرجاعية. ومثال على ذلك, قصة «نعيق الغراب الأبيض» وقصة «المطلوب رأس الشاعر» اللتان يتناوب فيهما الاستباق والاسترجاع, والمفارقة الضدية. هذا الأسلوب خلق أجواء من الدهشة, في تداخل أحداث القصة.
الاسترجاع: Analepsis
يتيح للكاتب العودة إلى الماضي في الحدث, ويتم من خلاله ربط أحداث القصة, عن طريق استعادة الماضي, وإعادة التوهج فيه وجعله حدثاً حاضرًا. وهذا هو الاسترجاع الخارجي, أما الاسترجاع الداخلي, فعادة يتعلق بالشخصية التي تسرد هذا الماضي عن نفسها. وتقنية الاسترجاع, تتيح للكاتب, ربط أحداث القصة, إذا ما تداخلت مع «المخالفة الزمنية» عن طريق استرجاع الأحداث بأزمنتها الماضية والحاضرة والمتوقعة. وهذا الأسلوب, كان حاضرًا في قصة «الحكاية تبدأ هكذا» وفي قصة «المطلوب رأس الشاعر».
الاستهلال: Protasis
كان يُقصد بهذا المعنى, «ذلك الجزء التمهيدي في المسرحية اليونانية القديمة, الذي تُعرض فيه ملابسات الحبكة قبل المضي إلى الحدث نفسه. وهناك الاستهلال exordium الذي يعني الجزء الأول من الكلام (خاصة الخطبة) الذي يقدم فيه المتكلم جملة من الألفاظ والعبارات, يشير بها إلى موضوع الكلام». (مجدي وهبة, معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب, ص 32, مكتبة لبنان, بيروت, 1984) وكذلك مقدمة القصيدة ويطلق عليها الاستهلال.
والاستهلال, بالمعنى الوارد في هذه الدراسة, هو ذلك السرد الذي يرويه الراوي في افتتاح النص, بما يوحي أن ليس له صلة بالحدث في القصة, لكنه ينفتح على إيحاءات مرتبطة بالدلالات على مقاصد الحدث, مثل ذلك الاستهلال, في قصة «امغريبة» في مجموعة «دامسة».
تقنية أدبية: Technical device
تقنيات السرد في القصة, تتمثل في أنواع الرواة وبنيات الزمن, وتيار الوعي, وأنماط السرد والحوار. ومجموعة التقنيات الفنية تُعتبر الجهاز الكاشف عن الدلالات الأدبية والأدوات الموظفة فيه. (عن معجم مصطلحات الأدب, ص 60, مجمع اللغة العربية, القاهرة, 2014).
تيار الوعي: Stream of consciousness
أصبح هذا المصطلح معروفاً ومتداولاً, على نطاق واسع, في الدراسات النقدية التنظيرية, بعد صدور رواية «يوليسيس Ulysses) »1922) للأيرلندي «جيمس جويس» (1882 - 1941) التي تعتمد على عمليات التداعي في سرد الأحداث أو الحدث, دونما تقيد بنظام زمني أو منطق موحد, وإنما تقوم على التداعي الحر غير المقيد, تنثال عبره الأفكار والحواس فيما يشبه الأحلام, تبدو الشخصية وكأنما هي تتحدث مع نفسها, عن نفسها, عن طريق إثارة ما هو كامن في الذاكرة. وقد ظهرت هذه التقنية الأدبية في أعمال كتاب بارزين من أمثال «فرجينيا وولف» و»وليام فوكنر» و«مارسيل بروست». وفي أعمال كتاب عرب كثيرين. ويتقاطع هذا المصطلح مع تكنيك (مونولوج) أي المناجاة الداخلية, التي تكشف على لسان الممثل في المسرح. عن مكنونها الباطني, دون اعتبار إلى ما تقوله الشخصيات الأخرى (انظر: معجم مصطلحات الأدب. ج2, ص 66, مجمع اللغة العربية, القاهرة, 2014). وعند «مجدي وهبة»: «تيار الشعور عبارة ابتدعها الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس (1842 - 1910) في كتابه «مبادئ علم النفس» (1890) للدلالة على انسياب التجارب النفسية داخل الإنسان. وقد أُخذ بهذه الفكرة في الأدب للدلالة على فن المؤلف في وصف الحياة الداخلية لشخصيات قصته بطريقة تقلد حركة التفكير التلقائية التي لا تخضع لمنطق معين ولا لنظام خاص. ويقال إن الفضل في ابتداع هذا المنهج في القصص, يرجع إلى الكاتب الفرنسي «إدوارد دي جاردان» (1861 - 1949) (معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب, ص 128, مرجع سابق).
ولا يزال كتاب «تيار الوعي» لمؤلفه «روبرت همفري» Robert Humphrey, الذي صدر في عام 1962 من أهم الكتب في تعريف هذا المصطلح. وقد قام الدكتور «محمود الربيعي» بترجمة هذا الكتاب عام 1973, وصدرت طبعته الثانية بعنوان (تيّار الوعي في الرواية الحديثة, المركز القومي للترجمة, القاهرة, 2015). وفي هذا الكتاب يُعرّف مفهوم تيّار الوعي, على النحو التالي المختصر: «انه نوع من القصص يُركز فيه أساساً على أنواع من مستويات, ما قبل الكلام من الوعي. بهدف الكشف عن الكيان النفسي للشخصيات». ويشير إلى أنواع التكنيك المستخدمة في «تيار الوعي» وهي: 1- المنولوج الداخلي المباشر. 2- المنولوج الداخلي غير المباشر. 3- الوصف عن طريق المعلومات المستفيضة. 4- مناجاة النفس. وفي رأي «همفري» أن المنولوج الداخلي, مصطلح بلاغي, يشير على نحو مناسب إلى «تكنيك» أدبي, يستخدم في تقديم «تيار الوعي».
الدَّال: Signifier
الدّال هو اللفظ المعبر عن فكرة، أو معنى يتفق على الربط بين الفكر والمعني. الحروف اللغوية دوال على الربط بين الفكر والمعنى، الحروف اللغوية دَوال جزئية، يتكون من اجتماعها دَال كلي، يتغير باختلاف الترتيب، أو استبدال أحد حروف الأصوات بصوت آخر، مماثل له مثل «جمل» و»حمل» و»لجم» و»لمح» (معجم مصطلحات الأدب, مرجع سابق، ص 83) وتتعدد الشروحات لمعنى الدلالة والدّال. والدلالة اللغوية، هي دلالة الألفاظ على معانيها المقابلة لها. والدّال الذي ينصرف إليه المعنى - في هذه الدراسة - هو اللفظ الذي يدل على المعنى. وقد يكون هذا اللفظ جملة تدل على قصد، مثل «الغراب الأبيض» في قصة «نعيق الغراب الأبيض» و»الفئران التي جاءت من صوب البحر» في قصة «المطلوب رأس الشاعر» من مجموعة «الخبز والصمت».
القارئ الضمني: Implied reader
الذي يُشارك مشاركة فعالة في عملية القراءة، والتي تسمح وتسهل إنتاج المعنى (إيرينار مايك، موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة، ج 3، ص 178، ترجمة حسن البنا عز الدين، المجلس القومي للترجمة، القاهرة، 2014). وعند «فولفغانغ إيزر» Wolfgang Iseer، أن الأديب والقارئ، ينبغي أن يشتركا معاً في لعبة الخيال، فاللعبة لا تصلح إذا زاد النص عن كونه مجموعة من القواعد الحاكمة، وتبدأ متعة القارئ، حين يُصبح منتجاً، أي حين يسمح له النص بإظهار قدراته، (انظر: نجاة علي, المفارقة في قصص يوسف إدريس القصيرة, ص 79, المجلس الأعلى للثقافة, القاهرة, 2009). والقارئ الضمني قارئ متخيل يفترضه المبدع، ويوجه إليه الخطاب، على اعتبار قدراته في استيعاب النص، وهو يختلف عن القارئ الفعلي، كما يتحقق في الواقع، ويختلف عن «المروي له» في السرديات، وأحياناً يشار إليه «بالقارئ النموذجي» الذي يوصف بأنه «ذكي مثقف ذو ذوق رفيع، تواق شغوف». (انظر: معجم مصطلحات الأدب، ج2، ص 113، مجمع اللغة العربية، القاهرة 2014)
المخالفة الزمنية: Anachrony
أسلوب المخالفة الزمنية، هو تغيير متعمد للتوالي الزمني داخل النص السردي. فيتم الخروج على النظام الطبيعي لترتيب الأحداث، في الحدث بالتقديم أو التأخير. وقد يصل هذا التغيير الزمني إلى مستوى عالٍ من التعقيد، فتمضي الأحداث السردية من خلال قصة متنامية، تتخللها أحداث تنتمي زمنياً إلى ما قبل زمن القصة أو إلى ما بعد (عن: معجم مصطلحات الأدب، ج2، ص139، (مرجع سابق). وتتم المخالفة الزمنية، عندما تتداخل أزمنة الحدث، حينما يلجأ الراوي إلى تغيير تلقائي عن طريق الاسترجاع الاستباقي، الذي يتيح استرجاع الأحداث بأزمنتها الماضية والحاضرة والمتوقعة. مثال على ذلك قصة «الحكاية تبدأ هكذا» وقصة «هاتف».
المفارقة الضدّية: Paradox
المفارقة هي معنى لغوي بلاغي. يتبنى صيغاً من أساليب التهكم والسخرية التي تصل إلى مستوى الازدراء، والتضاد في التعبير بين المعنى المباشر والمعنى الضمني غير المباشر. وتتعدد أنماط المفارقة Irony، لتشمل أشكالاً وأساليب مختلفة، منها مفارقة النغمة، المفارقة اللفظية، مفارقة الحكاية والإيهام، المفارقة البنائية، المفارقة التاريخية، والمفارقة الضدية، وهي الأكثر شيوعاً في الأساليب الأدبية.
المروي له: Narratee
شخص مُتخيل أو أشخاص، يتوجه إليه أو إليهم الراوي، بالخطاب السردي. وهو شخص افتراضي سردي محض، يتميز عن القارئ الحقيقي، أو القارئ الضمني كذلك. (معجم مصطلحات الأدب، ج 2، ص 142، مرجع سابق). والمروي له هو المسرود له، الطرف الآخر في عملية التواصل مع الراوي (السارد). الراوي هو من يتكلم، والمروي له الشخص الذي يستمع، ويتحدد بشخصه بناء على علامات نصيّة صريحة أو ضمنية، مثل: استعمال ضمائر المخاطب، والاستفهام البلاغي، وأسماء الإشارة، مثل قولنا: «أيها الرجل إن الطريق الذي تسلكه الآن، يؤدي إلى المدينة». فهنا الراوي المتكلم يوجه كلامه إلى مروي له، يعرف المدينة التي يقصدها، لكنه لا يعرف الطريق المؤدية إليها. وقد يكون المروي لهم، أفرادًا أو كيانات وجماعات. (انظر: موسوعة النظريات الأدبية المعاصرة، ج3، ص 297، مرجع سابق).