د. حسن بن فهد الهويمل
لغة السياسة لغة تداوليَّةٌ, لاحَدِّيةٌ، ولا نَصِّيَّةٌ، تختلف عن لغة الفقهاء القطعية، وعن لغة الفلاسفة الجدلية، وعن لغة الحكماء التوجيهية.
إنها لغة الاحتمالات، والقراءات المتعددة. لغة المراوغة، والتوهيم، والخلوص الذكي في المواقف المحرجة.
السياسة تقوم على المصالح. والمصالح كشمس المرآة في كف الأشَلِّ. والدين يقُوم على الثبات، والبرهان.
والإسلام يقر اللغتين معاً:- لغة الدين القطعية. ولغة السياسة الاحتمالية:- [الحَرْبُ خِدْعَةٌ].
والحرب بشقيها:- الباردة، والساخنة جزء من السياسة. فلغة السياسة بكل ذكائها، وتوريتها، ومجازها، وإيجازها من أقوى الأسلحة التي يتطلبها الواقع.
ومن رجالاتها: [الوزراء]، و[السفراء]، و[المناديب]:- المقيمون، والمتجولون, و(الإعلاميون). وهؤلاء، وأولئك يحتاجون إلى لغة التداول السياسي، القائمة على الذكاء، وحضور البديهة، والبراعة في التخلص من المآزق. لغة الاحتمالات، والقراءات المتعَدِّدة، [لغة البَزْنَطَةِ] التي تبدأ، ولا تنتهي.
دول تألقت ببراعة، وزراء خارجيتها، وذكائهم. وأخرى تعثرت بادعاءات وزرائها العريضة، وصفاقتهم المحرجة.
[المملكة العربية السعودية] منذ عهد المؤسس تعاقب على كرسي خارجيتها، وتَبَادَلَ حَقِيبتها رجال أكفاء. لعل من أبرزهم [فيصل بن عبدالعزيز]، و[عمر السقاف]، و[سعود الفيصل] رحمهم الله. وتلك حقيقة لا نقولها مجاملة، ولا تزلفاً.
فقيد السياسة العربية، وعَرَّابها [سعود الفيصل] أجمع الأصدقاء، والأعداء على تألقه، وتفوقه. لقد أدار السياسة الخارجية في أحلك الظروف بمهارة فائقة، واحترافية ملفتة للنظر.
في [الجزائر] أعجبت بوزارة [عبدالعزيز بوتفليقة].
وفي مصر أعجبت بوزارة [عمرو موسى].
وفي أمريكا أعجبت بوزارة [هنري كيسنجر]، سواء اختلفت معهم، أو اتَّفَقْت، كرهت، أو أحببت. المهم براعتهم في توقي الأزمات. وذكاؤهم في إدارة الاختلافات.
[الأوامر الملكية] الجديدة طالت وزارات مهمة، ومواقع حساسة: [الخارجية]، و[الإعلام]، و[التَّعليم]. وتلك وزارات سيادية في غاية الأهمية, لأنها تمس حياتنا بكل تفاصيلها.
وقراءة تلك الأوامر تتعدد بقدر أهميتها، ويختلف الناس حولها بقدر حجمها، وآثارها: داخلياً، وخارجياً. ولَسْنَا مَعْنييَّن بالقراءات الصارخة التناقض، فنحن نعرف من نكون. ولن يستزلنا أحد بإيجافه.
شخصية الوزير القدير الدكتور [إبراهيم العساف] كادت تَسْرق الأضواء، إذ قَلَّ أن تجتمع الكلمة على كفاءة شخصيةٍ اجتماعها على مثله. مع أن معالي الوزير السابق [عادل الجبير] نهض بالمهمة على وجهها، ولمَّا يزل يحتفظ بأهليته، ولهذا ظل ظهيراً للوزير الجديد.
[العساف] يتمتع بالهدوء، وبعد النظر، ورباطة الجأش، والتعالي فوق لغة التهريج. صمت محتشم، ورزانة مهيبة. والمملكة حققت من خلال حيادها الإيجابي، ووسطيتها، وتغافلها مكاسب كبيرة، وكثيرة.
لقد مرت السياسة العربية بخطابات تشنجية، استهلكتها شعارات قومية, وحزبية زائفة، وخسرت في لززها الإعلامي مواقع مهمة. فخطابات الانقلابات العسكرية تقوم على التهييج، والتحريض، واستعداء الأعداء، وتجريم الأقربين.
ومن ثم دفعت في سبيل تشنجاتها ثمناً باهضاً من مالها، وجهدها، وكرامتها. وانكشفت مواقعها الهامة من خلال ترددها بين الإقدام الطائش، والفرار من الزحف.
وما تعرضت [المملكة] لشيء من ذلك كله.
نعم نحن جزء من هذا العالم بكل منطوياته، وممارساته, وتظل لنا خياراتنا المراوحة بين الاضطرار, والاختيار. والإقدام, والإحجام. ولنا حساباتنا التي ندخل بها لزز السباق. ولكننا نظل الأقل خسارة في سياق الانهيارات المخيفة.
الخارجية السعودية بتشكيلها الجديد أعادت فترة [فيصل بن عبدالعزيز]، و[عمر السقاف]. وهي الثنائية التكاملية.
وزير كـ(النحلة) في حركته:-
أَخَا سَفَرٍ جَوَّابَ أَرضٍ تَقَاذَفَتْ ... بِهِ فَلَواتٌ فَهوَ أَشعَثُ أَغبَرُ
وآخر كـ(النخلة) في ثباته، وسموقه، وعطائه.
الراصدون، والمراقبون يدركون كم هو حجم المسؤولية الخارجية لـ[المملكة العربية السعودية] في ظل الظروف المأزومة، والتدخلات المخلة بالأمن، والاستقرار, وهذه الإجراءات تواكب التحولات المخيفة في أزمات المشرق العربي.
ولأن المملكة رقم مهم في حركة الجزر, والمد السياسي فإنها بأمس الحاجة إلى كَفَاءة وطنية تقلبت في عدة مناصب، وشاركت في عدة مهمات. وأثبتت من خلال ممارساتها، وخبراتها، وبُعْد نظرها، وثقتها بإمكانيات دولتها، ومكانتها حسن الأداء.
رجل السياسة حين يلقي الكلام على عواهنه يُحْرِج دولته، ويضطرها إلى التراجع المخل، أوالاعتذار المذل، أو الاستنجاد بالتأويل المراوغ، ولغة السَّفْسَطَةِ.
وكم من زعيم, أو مسؤول فَوَّتَ الفرص المناسبة على دولته باطلاق كلمة غير مَسْؤُولَةٍ, لم يُلْق لها بالاً، قد تهوي بسمعة دولته سبعين خريفاً في قعر التخلف، والمهانة.
وكم من إعلام مهرج كشف عوار قومه، وتفاهتهم، [وكَمْ كَلِمَةً قَالَتْ لِصَاحِبِهَا دَعْنِي].
الإعلام المعزز بالتقنية الدقيقة كشف عن سوءآت مستورة، ونَبَشَ عن عيوب دفينة.
لقد سَمَّيْتُ هذه المرحلة بـ[زَمَنِ العُرِيِّ]، زمنٍ لاتخفى فيه خافية.
(حقيبة الخارجية) التي تلقاها [العساف]، باليمين تجعلنا نَرَدِّدُ بكل الثقة، والاطمئنان:-
[إذَا أيْقظَتْكَ هُمُومُ العِدَى ... فَنَبِّه لَهَا عُمَراً ثُمَّ نَمْ].
لكل زمان رجاله، ولكل عارض نطاسيه، وزماننا كزمان المتنبي:-
[أتَى الزّمَانَ بَنُوهُ في شَبِيبَتِهِ ... فَسَرّهُمْ وَأتَينَاهُ عَلى الهَرَمِ].
فأثقلنا بالمسؤوليات الجسيمة، والمواقف العصيبة.
لم تعد المواقف سهلة، ولا الخيارات مواتية. دول تمزقت، وشعوب ذلت، وتَشَرَّدت، وأبنية تهدمت.
و[المملكة] في اللهب، ولا تحترق، وكأنها نار (إبراهيم) برداً, وسلاماً. إنه التدبير السديد، والتقدير الرشيد، والتوفيق الرباني:- {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى}.