محمد آل الشيخ
لا يمل بعض الفقهاء المعاصرين في خطاباتهم المعاصرة من التأكيد على أن داعش وممارساتها لا تمثِّل الإسلام الحقيقي، وأنهم مفتئتون على دين الإسلام، وعلى أنهم يسيئون إليه أشد إساءة عرفها التاريخ. ولكنك عندما تسألهم عن رأيهم في استدلالات الدواعش وشواهدهم التي يجعلونها تأصيلاً شرعياً لما يقولون ويمارسون، تجد (أغلبيتهم) ولا أقول جميعهم يتهرّبون من الإجابة.
صحيح أن مواجهة داعش يجب أن تكون بالمواجهة الأمنية لدرء صولاتهم لحماية البشرية منهم، ولكن هذه المواجهة وحدها لا تكفي؛ لأنها لا تقضي على البذور والجذور، فقد يعودون ثانية متى ما سمحت لهم الفرصة، وضعفت الأنظمة الحاكمة التي تواجههم، لذلك لا يمكن مواجهتهم وإضعافهم إلا بالمواجهة الفكرية، والتي ترتكز أولاً على أن الإسلام دين وعقيدة وتوحيد لله جلّ وعلا والعبادة في الدرجة الأولى، وثانياً أن كثيراً من الأدلة والسياقات مرتبطة بسياقات وظروف الماضي، وهذا الماضي لم يعد صالحاً لسياق الحاضر وظروفه، الذي نعيشه، ويجب أن نتعايش معه.
اختلاف سياق الماضي عن سياق الحاضر هي أهم المرتكزات التي يجب أن يركز عليها فقهاء العصر، فداعش التي يُجهلونها ويتبرؤون من أفعالها لم تخترع جديداً، إنما أخذت جميع مقولاتها واستشهاداتها وأدلتها من فقهاء الماضي، الذي نصر وما زلنا على أن اجتهاداتهم (صالحة لكل زمان ومكان)، ولم تزد على أنها قامت بتطبيق هذا الفقه الذي يقولون بصلاحيته اليوم كما هو صالح للأمس على أرض الواقع. خذ استرقاق غير المسلمين - (اليزيديين في العراق مثلاً)- هذه ممارسة يقول فقهاء الماضي إنها شرعية؛ وقراءة ولو عابرة وسطحية في مؤلفات فقهاء الماضي، ستكتشف أنها ممارسات يقرونها، بل إن كثيراً من هذه الفقهيات ما زالت تدرَّس في بعض مناهج المؤسسات العلمية، ويرددها الخطباء على منابر مساجد الجمع، ولا يجرؤ - حتى أولئك الذين يسفهون بالدواعش - أن يُطالبوا بالتوقف عن تدريسها أو تشريعها، لأن زمنها قد ولَّى وانتهى، بحجة أن هذه نزلت في زمن آخر، ولا تصلح لعصرنا، وتطبيقها في زماننا سيفرز تلقائياً التطرّف والغلو والإرهاب.
داعش ربما خبت نيرانها، وتمت هزيمتها، لكن جذورها ما زالت باقية في تربتنا، وستعود للظهور ثانية إذا لم نجتث هذه الجذور، ولا نكتفي بالقضاء على تكوينها الظاهر على سطح الأرض. وأقولها هنا، وسبق أن قلتها، إذا لم نلتفت إلى تعليم أبنائنا حقيقة مفادها أن ما كان صالحاً لزمن أسلافنا في الدنيويات، فليس بالضرورة أن يكون صالحاً لعصرنا الذي نعيش فيه، وأن بعض (ثوابتنا) التي يجب أن نصر عليها وأن نذب عنها بكل ما نملكه من قوة هي العقيدة الصافية والتوحيد الخالي من الشرك وكذلك العبادات، أما الدنيويات المتعلّقة بالشريعة فيجب أن نُخضعها لقانون التغيير، لتكون صالحة لمقتضيات مصالحنا ومتطلبات التعايش مع الآخرين في عصرنا.
وهذا ما يجب أن يقوم به الفقهاء، فهم الذين بإمكانهم مواجهة الدواعش فقهياً، ومواجهة استدلالاتهم التراثية، أما شجب ما تمارسه داعش، والتنديد بما يقولون، فليس حلاً من شأنه إصلاح بيئتنا الثقافية، فهذا بكل صراحة (هروب) من المواجهة.
بقي أن أقول إن الأمير محمد بن سلمان هو بكل ما تحمله الكلمة من معنى رجل إصلاح حقيقي، ولديه من الشجاعة والإقدام والحزم في التعامل مع النوازل، ما يجعله بحق من صنَّاع التاريخ، لكن لا بد له من مجموعة فقهاء شرعيين بذات القدر من الشجاعة والإقدام، بالشكل الذي يُمكِّنه من الاستمرار في معالجة القضايا الفقهية المعاصرة بشجاعة، ولا يأبه بأقوال من يرفلون بقيود القديم، وأعني هنا شيخاً على نمط وعي وثقافة وإدراك وشجاعة الإمام المصري الشيخ «محمد عبده»؛ وليس لدي أدنى شك أن ذلك الفقيه المجتهد المتنوِّر لو عاصر الأمير محمد بن سلمان، لانتهى التطرّف ومعه التخلّف، واستطعنا فعلاً لا قولاً اجتثاث الإرهاب وبذوره وجذوره من تربة العرب.
إلى اللقاء