تهاني فهد الخريجي
في كل شعب ما يغلب عليه من عادات، تكاد تكون سمة تميزه عن غيره من الشعوب. ولا شك أن هناك العديد من التباين الثقافي في المجتمع الأمريكي عما ألفناه في حياتنا ونشأنا عليه، لا يخلو من مميزات في المقابل بكل تأكيد.
بوصفي إحدى منسوبات التعليم في الابتعاث ضمن البرنامج القيادي العملاق (برنامج التطوير المهني والنوعي في خبرات أمريكا), الذي أتاح لنا فرصة المعايشة داخل أفضل المدارس في أمريكا للوقوف على أكثر الخبرات تأثيرًا في العملية التعليمية، والبحث خلف أبسط اللمحات التربوية التي خلقت في تعليمهم كفاءة مميزة ذات مخرجات قوية.. لن أتحدث عن شغف طلابهم داخل المدارس بالقراءة، واعتيادهم على التهام الكتب والقصص، وشغفهم الدؤوب للبحث والاطلاع.. ولن أقف على القوانين والأنظمة التفصيلية والواضحة للجميع في صورة تعليمات ميسرة للطلاب حول حقوقهم وواجباتهم, وصورة أخرى في المقابل حول الإجراءات المتدرجة للمخالفات والعقوبات لكل عمل وسلوك.. فهناك الكثير والكثير من الوقفات والتأملات التي لا يسعني ذكرها على عجالة في أسطري هذه.
بل سأتطرق إلى مشهد متكرر في الفصول الأمريكية، ولاسيما المراحل الابتدائية وفصول رياض الأطفال، بل هو الأمر الذي لاحظته أيضًا في دور الحضانة لعمر من ثلاث إلى خمس سنوات في أفضل الدور التابعة لجامعة بوسطن. إنه مشهد تعليمي، يسمح للطفل بأن يرسم صورة ذهنية واضحة عن الروزنامة اليومية، ويحدد موقعه بالنسبة للزمن الذي يعيشه بين أمسه وغده!
ففي بداية كل شهر يتم مراجعة التقويم الشهري مع الأطفال, ومعرفة ما يمكن أن يميز هذا الشهر عن غيره, وتمييز موقعه من السنة بشكل عام، وبين الأشهر الأخرى، ثم يتم تصنيفه ضمن المواسم الأربعة، كالشتاء أو الربيع أو الصيف أو الخريف، بطريقة يفسر الطالب معها التغييرات البيئية من حوله، ويربطها بعالمه الصغير؛ فيشعر بأنه يتعلم شيئًا حقيقيًّا مرتبطًا بما يراه خارج المدرسة.
يتعرف الطالب خلال تلك المراجعة على المناسبات التي يحملها ذلك الشهر من أيام مميزة، كاحتفالات معينة أو إجازة في يوم محدد, واجتماعات أولياء الأمور، أو حتى أعياد الميلاد. بطريقة تفاعلية، يشارك فيها معلمه بوضع الملاحظات على الروزنامة بنفسه, وينتظم تفكيره مع ما يمكن أن يعيشه من تجارب لم تحدث بعد, ويمتلك معها القدرة على التخطيط في التفاعل مع ذلك الشهر وما يحمله من أيام خاصة أو عامة.
ثم إن مراجعة التقويم الزمني مع الأطفال تتكرر كل يوم للتدريب على احترام الوقت، والتعويد على التخطيط المناسب لتحقيق كل هدف عن طريق المراجعة الصباحية للجدول اليومي، وأبرز ما يحمله من مهام.. إذ يتم افتتاح اليوم الدراسي بما يسمى الاجتماع الصباحي، أو في بداية الحصة الأولى بمراجعة التقويم الدراسي, ومعرفة تاريخ اليوم، وموقعه من الأسبوع، وتنظيم سيره من بداية اليوم الدراسي إلى آخره، مع التطرق إلى الطقس ودرجة الحرارة في ذلك اليوم.. بطريقة مركزة، تجعلك لا تتعجب أن يناقشك ابنك عن مخططاته الشخصية حول الأشهر التي يفهمها جيدًا، والأيام التي يعيشها كل يوم في مدرسة تحرص على أن تذكِّره بموقعه الزمني، وأن العمر مجرد أرقام, لا يمكن أن يكون فيها فردًا ذا قيمة ما لم يستغلها بالتزام حقيقي, واحترام كبير للوقت والزمن.
يتقن الطالب فن التخطيط، ومعرفة أين هو اليوم، وكيف يمكن أن يصل إلى مستقبله القريب أو البعيد, بطريقة بسيطة، قد أغفلنا عمقها في تعليمنا على الرغم من أهميتها, واكتفينا بالاقتصار على كتابة تاريخ كل يوم على اللوح الفصلي دون ربطه بما يسبقه أو يتبعه من أيام أو فصول أو حتى مناسبات! فالمدارس الأمريكية تحرص على مراجعة الجدول الزمني مع الطلاب في مراحل التعليم الأولية، وتدربهم على مراجعته بأنفسهم، وتحديد مهامهم واستعداداتهم حسب كل مناسبة وحدث. وهو الأمر الذي يصبح أكثر ممارسة في المرحلة الثانوية التي تعرض الخطة الزمنية للمدرسة من أول يوم في العام إلى آخر يوم على لوحة الإعلانات بشكل دائم شاملة أهم الأيام خلال العام، واجتماعات أولياء الأمور، وكل ما يهم الطالب معرفته للالتزام بالعمل ضمن جدول تفصيلي منظم.
إن التدريب الذي تصنعه المدرسة الأمريكية في سلوك الأطفال عن طريق ربطهم التفاعلي بعملية التخطيط المدروس ضمن جدول زمني واضح, ومراجعة متكررة للتقويم الدراسي بشكل يومي, يحمل أهدافًا مهمة في إدارة الحياة، يجعلنا نفهم كيف يمكن أن يكون للمدرسة تأثيرٌ قوي في غرس عادة مهمة في حياة الفرد, ومدى عمق أثرها على خلق سمة معينة لمجتمع كامل؛ لينشأ الطفل والشاب والكبير فيهم فردًا يحترم الوقت, ويلتزم بالعمل, ويجيد التخطيط!