المجتمعات البشرية عادة ما تصنع منظوماتها القيمية والأخلاقية وحيثيات التدرج بالمكانة الاجتماعية لديها بحسب طرائق معيشتها والظروف والتحديات الطبيعية والأمنية والجغرافية المحيطة بها. فالقيم والأخلاقيات ما هي إلا ضوابط معيشية تخلقها الحاجة وتوجدها كنوع من التكيّف لمواجهة الصراع من أجل البقاء. ولو استعرضنا الكثير من القيم المجتمعية لدينا كالكرم والشجاعة و(الفزعة) والحميّة.. الخ لوجدنا أن هذه القيم قد اكتسبت وجودها وقيمتها من خلال الحاجة المجتمعية لوجودها في فترة ما.
فالكرم على سبيل المثال هو نوع من سد حاجة معيشية (أيا كان نوع هذه الحاجة) وبالتالي متى ما تغيرت الحاجة يجب أن يتغير مفهوم الكرم. ففي أوقات الجوع التي ضربت الجزيرة العربية بشكل خاص والوطن العربي بشكل عام تمثّل الكرم في تقديم الطعام وبذله لمن تعرف ولمن لا تعرف فكان حداً فاصلاً بين الحياة والموت في ظل قسوة وفقر الصحراء القاتلة، وكانت الاستضافة والايواء في البيت كرماً آخر مهماً جداً لأنه يوفر الأمن والدفء والظلال في تلك البيئة الصحراوية المكشوفة التي يعبرون في غياهبها ومجاهلها وقفارها طلباً للحياة.
ومع تغير الوقت واختلاف الظروف الحياتية والمعيشية التي يعيشها إِنسان الجزيرة العربية والوطن العربي وفي ظل توفّر المأكل والمشرب وتغيّر وسائل الحياة فإن الحاجات القديمة للمأكل والاستضافة لم تعد بذات الأهمية لإِنسان هذا العصر، بل هي ثانوية جداً وبإمكان أي شخص ومن أي طبقة توفير مأكله ومسكنة بسهولة، وبالتالي لم يعد توفير هذه الأشياء يستحق أن نطلق عليه كرماً طالما هو لم يبذل لسد حاجة. مما جعله يتحول لتدوير موروث وعادة اجتماعية وإقحامها في غير محلها من العصر، لتصبح وسيلة تفاخر اجتماعي و(هياط) ذميم ومبتذل يسهم في تشويه الفاعلية الاجتماعية بدلاً من إنقاذ حياة البشر.
وفي المقابل استحدثت في حياتنا المعاصرة حاجات اجتماعية جديدة تستوجب استحداث صيغ ومفاهيم جديدة للقيم والأخلاقيات المجتمعية وعلى رأسها الكرم، فأين الكرم من المرضى الذين لا يملكون قيمة العلاج، وأينه من الأسر الفقيرة غير القادرة على كسوة أطفالها وتقديم وجبة غذاء لهم؟ أين هو من الأرامل والأيتام الذين يواجهون قسوة هذا العصر بلا حماية مجتمعية!؟
يجب أن نعيد تقييم معظم قيمنا المجتمعية وتحليل أهمية وجودها، فإعادة تدوير ذات القيم في ظروف معيشية مختلفة لمجرد توارثها وتقديس هذا التوريث يجعل منا مجتمعاً يعيش خارج عصره. مجتمع غير قادر على تطوير قيمه المجتمعية بحسب حاجات أفراده، وكل ما يقوم به هو استحضار قيم الماضي وإسقاطها على واقع لا يشبهها. فعندما أرى حالات فقر ويتم ومرض وعوز شديد لأسر فقيرة لا يلتفت لها أحد في ظل مجتمع يتفاخر أفراده بالولائم الباذخة والهدايا المكلفة تحت مسمى (فضيلة الكرم) أشعر بأننا أمام خلل مجتمعي أخلاقي وقيمي يحتاج لوقفة حقيقية وصادقة مع النفس للتعاطي معه.
** **
- تركي رويع