د. حسن بن فهد الهويمل
عنوانُ هذا المقال عتبةُ كتابٍ مترجم، لكاتبة أمريكية. ممثلة، وإعلامية ثرية مثيرة، لا تعرف شيئاً على وجه اليقين، وإن تبجحت بادعائه. وهي قد التقطته من مقابلة أجريت معها في مطلع شبابها، حين فوجئت بسؤال مُحَيِّر:-
- أخبريني، ما الشيء الذي تعرفينه على وجه اليقين؟
لقد أوقف هذا السؤال تسلسل أفكارها. واستمر معها التفكير ستة عشر عاماً، حتى أصبح عنواناً لعمودها الشهري في المجلة التي تكتب فيها، ثم أصبح عنواناً لكتابها.
إنها الكاتبة الزنجية الصائعة، الضائعة في شبابها (أوبرا وينفري)، المولودة عام 1954م. وكتابها مجموعة مقالات متنوعة، تكاد تكون (سِيْرِيَّةٍ).
ذلك قول احتراسي لكيلا اتهم بسرقة الأفكار، أو اختلاس العناوين.
و(الأكاديميون) من أكثر الفئات حساسية من الاتهام بالسطو. فالأمانة العلمية عندهم شرف أنثوي. ومن ثمَّ يحرصون على الإحالة، والتنصيص، والاعتراف بحق السابق.
ونحن في النهاية لا نقول إلا معاداً، أو معاراً من قولنا مكرورا.
ومصطلحات (السرقة)، و(الاقتباس)، و(التضمين) عند المتقدمين. و(الأشباه والنظائر) عند الخالديين. (والتناص)، و(المثاقفة) عند المُحْدَثين إن هي إلا موحيات وقوع الحافر على الحافر: صدفة، أو قصداً.
(المتنبي) أوذي بسبب مثاقفته الواسعة، وألِّفَ حولَ سرقاتهِ، والدفاعِ عنه عددٌ من الكتب. وكم قلت:- إنه لا يوجد نص، أو حضارة بريئة.
الثقافة، والمعرفة تراكميةٌ، تناسخيةٌ، تفاعليةٌ. والله وحده:- {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}. ولكن البعض منا لا يفقه ذلك، أو لا يريد أن يفقه لحاجة في نفسه.
والرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، يقول :- (إنما بعثت لِأتَمِّم مَكارِمَ الأخْلاق). وكلمة (التتميم) تعني أن البناء الأخلاقي قائم، ولكنه دون التمام، و(الرسالة المحمدية) إن هي إلا للإصلاح، والإتمام، وليست بدعاً، لا سابق لها :- {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ}
وفي الأثر الصحيح:-
(مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ قَصْرٍ أُحْسِنَ بُنْيَانُه، وَتُرِكَ فِيْهِ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَطَافَ بِهِ النُّظَّارُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ حُسْنِ بِنَائِهِ، إِلَّا مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ، فَكُنْتُ أَنَا سَدَدَتُ مَوْضِعَ اللَّبِنَةِ).
وإن قرئت هذه (اللبنة) بالختم، ونهاية الرسل. ولكن البناء اللغوي حين يمارس معه التفكيك ينهمر بالدلالات.
ذلك أن النص التشريعي مفتوح على كل القراءات. وهذا مصدر إعجازه، الذي اكتشفه الخليفة الراشد (علي ابن أبي طالب) رضي الله عنه، حين قال عن القرآن :- (إنه حَمَّالُ أَوْجُهٍ).
ومن المفسرين من يقطع بأن (اليقين) هو الموت، وهو معطى الآية المحكمة :- {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}. غير أن (غلاة المتصوفة) صرفوا الآية إلى مرادهم الضال، وأصبح اليقين عندهم العلم اللَّدُنِّي الذي يسقط التكاليف، فجعلوه ذا مصطلحات ثلاثة:-
- علم اليقين.
- وعين اليقين.
- وحق اليقين.
ولهذه المصطلحات تعريفات متناقضة، ومتاهات مضلة عند مختلف الملل، والنحل.
وهي عند الصوفية مراتب. ونظرية (التراتبية) بحر لجي، داخله مفقود، وخارجه مولود. و(خَرْفَنَةُ الأشْيَاءِ) مقترف صوفي، أضاع جهود العلماء، وألهاهم عن كل مفيد. وعطل مهمة اللغة التوصيلي. واخترعوا الظاهر، والباطن وليس ببعيد عنه منهج التفكيك.
حقل التصوف في (مكتبتي) مغبر مهجور، لأنه (مِلْحٌ أُجَاجٌ)، لا يُرْوي العطاش، بل يزيدهم ظَمَأً، فيما يجيء علم السلف الصالح (عَذْبٌ فُرات).
لا أقول ذلك تعصباً، ولا مذهبية، ولكنه عين الحقيقة. فـ(السلفية) منهج المجددين العدول الذين بشر بهم المصطفى. وهم الذين يأتون على رأس كل مائة سنة، ينفون عن الدين التحريف الغالي، والانتحال المبطل، والتأويل الجاهل. ويحيلون إلى الكتاب، وصحيح السنة، وفي ذلك نفي لما علق بالنص التشريعي من اجتهادات مُقَيَّدةٍ غير مطلقة.
والاجتهادُ المقيدُ بضوابط المذاهب، وقواعدها تعميقٌ للفرقة، وتشتيت للشمل، وتكريس لخطل الأفكار، وشواذها. يتبع