تتميز المملكة العربية السعودية باهتمامها الكبير بالتعليم منذ نشأتها وذلك بافتتاح المدارس في المدن والقرى والهجر والأودية والسهول وتصرف الآن ربع ميزانياتها على التعليم.. ونتيجة لذلك وصل التعليم في بلادنا لمستوى متقدم تمثل ذلك في وجود عديد من الجامعات وعدم وجود أي طفل دون السادسة من العمر خارج التعليم. وامتدادًا لهذا الاهتمام حظي التعليم الأهلي بجميع مستوياته باهتمام ورعاية الدولة وشجعت الاستثمار فيه والمشاركة بهذا الاستثمار في نهضة الوطن وتطويره.. وقد شهد التعليم الأهلي ازدهارًا وتطورًا ملموسًا مع القرن الواحد والعشرين وأصبح هناك ثقة بين المجتمع والتعليم الأهلي وتنوعت مؤسساته بين ربحية وغير ربحية، كما تنوعت برامج تلك المؤسسات مع اختلاف تخصصاتها بين التعليم من أجل العلم والتعليم من أجل العمل. وتميزت بعض هذه المؤسسات في نسب توظيف خريجيها حيث وصلت بعضها إلى 80 في المائة وتفوقت بعضها في نسب التوظيف على الجامعات الحكومية.. كما تميزت بعضها في ملاءمة برامجها لسوق العمل وبالتالي زاد الطلب على الجامعات الأهلية عند تخريجها لأوائل دفعاتها الذين أثبتوا كفاءة وقدرة عاليتين في المجالات التي يعملون فيها.
وفي هذا الوقت تضاعف أعداد طلاب هذه الجامعات من 100 طالب وطالبة لدى أول مؤسسة تعليم عالٍ إلى 88 ألفًا في عام 2015. وكان الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في تضاعف هذه الأرقام خاصة بعد عام 2010 إلى برنامج المنح الداخلية الذي تبنته الدولة حيث حفزت المستثمرين الأفراد وتحالف الاستثمارات المختلفة لتأسيس كليات جامعية وجامعات وللاستفادة من الطلب وزيادة القوة الشرائية آنذاك. وفي عام 2015 وصل عدد الكليات والجامعات إلى 10 جامعات و17 كلية وفي عام 2016 إلى 10 جامعات و20 كلية وفي عام 2017 إلى 11 جامعة و18 كلية وفي عام 2018 إلى 13 جامعة و21 كلية، في حين كان عدد الطلاب المقيدين في الجامعات في نفس الأعوام 78 ألفًا ثم 88 ألفًا ثم 85 ألفًا ثم 65 ألف طالب وطالبة. ويتضح من هذه الأرقام انخفاض ملحوظ في عدد المقيدين من عام 2015 إلى 2018 بنسبة 26.2 في المائة في حين زاد عدد الكليات والجامعات بنسبة و19.1 في المائة 23.1 في المائة. ويسعى المستثمرون في هذا القطاع الآن لزيادة استثماراتهم تماشيًا مع رؤية المملكة 2030.. لكنهم يواجهون بعض المشكلات التي قد تعيق هذا التوجه ومن أهم تلك المشكلات توقف برنامج المنح الداخلية الذي كان أكبر محفز على تطوير هذا القطاع كمًا وكيفًا. ففي العامين السابقين اللذين توقف فيهما هذا البرنامج كانت هناك آثار سلبية على اقتصاديات الكليات والجامعات الأهلية عالية المستوى والتي أثبتت كفاءة عالية وحصل بعضها على اعتمادات أكاديمية مؤسسية وبرامجية محلية ودولية. وكان من الأولى أن تقوم القطاعات ذات العلاقة بتقديم بدائل لقطاع التعليم العالي الأهلي ليضمن استمراريته ويشجع الراغبين في الالتحاق به، علمًا بأنني أجزم أن متوسط التكلفة للطالب في الجامعات الحكومية أعلى من متوسط التكلفة في الجامعات والكليات الأهلية.
ولهذا أرى بأن الجامعات الأهلية لا يمكن أن تستمر دون دعم معين من الدولة إما بعودة المنح الداخلية أو تبني ما يسمى (منتج الإقراض التعليمي) أو كليهما.. ومنتج الإقراض التعليمي لقطاع التعليم الأهلي العالي هو برنامج يتم تبنيه الآن في بعض الدول المتقدمة مثل: الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وسنغافورة وبريطانيا وألمانيا.
ومنتج الإقراض التعليمي برنامج يتطلب تكاملاً بين وزارة التعليم العالي وبعض الوزارات المعنية ومؤسسة النقد وبدعم من قيادة المملكة حفظها الله حتى يتحقق التميز وتحقق الفرص المتكافئة للمتميز وغير المتميز في المرحلة الثانوية للالتحاق بالجامعة أو الكلية الأهلية التي يفضلها وفي نفس الوقت يتحقق ضمان الوظيفة عند التخرج.. ومن منظور اقتصادي بحت فإن استحداث منتج الإقراض التعليمي سيزيد من حجم ونشاط القطاع المصرفي.. فعلى سبيل المثال لو نظرنا للولايات المتحدة الأمريكية وحدها لوجدنا أن إجمالي حجم الإقراض التعليمي على مستوى الدولة يأتي في المرتبة الثانية بعد الرهن العقاري. ولو أخذنا عام 2018، كمثال فإن ما تم تخصيصه للإقراض في التعليم العالي لوجدناه يفوق المائة مليار دولار. ومن منظور الآليات التنفيذية الخاصة بالإقراض التعليمي لبعض الدول الرائدة بنماذجها الاقراضية يتبين لنا أن هنالك دولاً تقرض الطلبة للتعليم ثم تستقطع نسبة لا تزيد عن 15 في المائة من إجمالي راتب الطالب عند حصوله على عمل يوفر له راتبًا لا يقل عن مبلغ يكون محددًا مسبقًا، وبعضها يستقطع بعد التخرج مباشرة والبعض الآخر يستقطع من الراتب بعد إعطاء الطالب مهلة بعد التخرج.
كما أن بعض هذه الدول تقرض عن طريق كيانات حكومية وتسمح للقطاع الخاص أن يسهم في هذه الخدمة والتي يعتبرها أساسية وليست ثانوية مع العلم بأن فوائدها قد تكون مبالغًا بها بعض الشيء.
إن الأداة التي حفزت المريض على أن يحصل على خدمة متميزة وأن يتعالج بين يدي أطباء متميزين في المؤسسات والمستشفيات الأهلية كانت ولا تزال هي التأمين الطبي الأهلي، والذي تم مأسسته لتقديم الخدمات (العرض) أمام الطلب الكبير الذي قد لا يوفيه القطاع الصحي الحكومي أو قد لا يوازيه في الخدمة أو في التميز. وأسوة بتوفير أداة التأمين الصحي للقطاع الصحي الأهلي فإنني أطالب اليوم بأن تتبنى وزارة التعليم مبادرة منتج الإقراض التعليمي بالتنسيق مع جهات الاختصاص، لا سيما بأن هذا المنتج سيحفز مؤسسات التعليم العالي حول العالم بأن يكون لها وجود داخل المملكة.
ومن المنظور الحالي لقطاع التعليم الأهلي فإن بعض الكليات والجامعات في المملكة بنيت على أساس المنح والدعم الخيري، وإنني أخشى بعد أن توقف برنامج المنح الداخلي وتخرج باقي المستفيدين منه وعدم وجود برنامج بديل له ألا تتمكن هذه الكليات والجامعات من الاستمرار وتغلق أبوابها أمام الجميع وتكون النتيجة أن يخسر هذا القطاع فرصته الذهبية في المساهمة في تنمية الوطن..
حفظ الله بلادنا ووفقها لكل خير.
** **
مهند عبدالله دحلان - المدير التنفيذي لشركة جامعة الأعمال والتكنولوجيا