د. محمد بن يحيى الفال
عند الحديث عن التوترات التي تعرضت لها العلاقات السعودية الأمريكية والتي يمكن وصفها بالقليلة والنادرة بسبب قوة ومتانة العلاقات الاستراتيجية التي تربط بين البلدين الصديقين، فإن أول ما تستعيده الذاكرة هو الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة في الحادي عشر من شهر سبتمبر 2001، ولعل آخرها هو ما تضج به الساحة الإعلامية والسياسية الأمريكية من تطورات عجيبة وغير منطقية في مُجملها بعد حادثة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي رحمه الله في شهر أكتوبر المنصرم. في الحادثة الأولى وكما يذكر الجميع والتي كان هدفها المباشر والمعلن هو ضرب العلاقات السعودية الأمريكية في مقتل من خلال مشاركة 15 سعودياً منتمين لتنظيم القاعدة في الهجمات، ولقد بادرت المملكة ممثلة في قيادتها السياسية ومنذ الوهلات الأولى للهجمات بالتنديد الشديد وبأقصى العبارات بالهجمات وتطرق كذلك مشايخ المملكة إلى عبثية الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة وبأن الإسلام بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب. ولم تكتف المملكة بالتنديد والاستنكار فقط لما تعرضت له أمريكا من هجمات بل وظفت كافة إمكانياتها وعلاقاتها للتعاون مع الجانب الأمريكي لمنع تكرار الهجمات الإرهابية ومحاربة الإرهاب محاربة لا هوادة فيها من ضربات استباقية ضد خلاياه ظاهرياً وفي الخفاء بما فيهم المحرضين عليه من دعاة للتطرف والعنف، وشملت جهود المملكة في هذا المجال كذلك تجفيف لمنابع دعم الإرهاب والتطرف من خلال قواعد صارمة فيما يخص جمع التبرعات أو الحوالات المصرفية من كافة البنوك والمؤسسات المصرفية في المملكة، وهي إجراءات غاية في الصرامة حذت بوزارة الخزانة الأمريكية بالإشادة بها في العديد من المناسبات. ولم تتوقف المملكة عند هذا الحد بل وإيماناً منه من خطورة ظاهرة الإرهاب على الأمن والسلم العالميين فلقد استضافت ورعت مؤتمر الرياض لمكافحة الإرهاب في عام 2005 وشاركت فيه الكثير من دول العالم والذي صدر عنه إعلان الرياض والذي يعد المثال الذي يجب الاحتذاء به لمواجهة ظاهرة الإرهاب بكونه ظاهرة كونية تتطلب تظافر الجهود الدولية للقضاء عليه، وكان آخر مساهمات المملكة الحيوية للتصدي للإرهاب تمثلت في إطلاق المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف «اعتدال» بالرياض وذلك على هامش القمة العربية الإسلامية الأمريكية. وسبق إطلاق المركز وبسنوات تلت مؤتمر الرياض لمكافحة الإراب عام 2005 قامت المملكة وبمبادرة منها جعلتها في مصاف الدول التي نبهت العالم لخطورة ظاهرة الإرهاب بدعم الأمم المتحدة مادياً ومعنوياً حتى تمكنت المنظمة الدولية من إنشاء مكتبها العالمي لمكافحة الإرهاب وقدمت المملكة وماتزال ملايين الدولارات لدعمه. ومع كل الجهود التي قامت بها المملكة لمحاربة الإرهاب وتنبيه العالم من مخاطره والتي تجعلها الدولة الرائدة في هذا المجال على المستوى الدولي، فقد تعرضت لهجوم إعلامي غير مسبوق من بعض وسائل الإعلام الأمريكية وبعض المشرعين الأمريكيين في الكونغرس الأمريكي بغرفتيه مجلس النواب ومجلس الشيوخ وذلك بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي أثبتت كل الدلائل والقرائن بأن المملكة العربية السعودية لا علاقة لها بالهجمات الإرهابية بأي شكل من الأشكال وليتضح ذلك جلياً في ما تم نشره من 28 صفحة والتي تم حجبها عن الرأي العام الأمريكي بحجة السرية. وحتي يتضح جلياً بأن هناك من المشرعين الأمريكيين الذين يسعون بدون تعقل أو وعي سياسي ناضج نحو توتير العلاقة الاستراتيجية القائمة بين المملكة وأمريكا، وأننا نجد ذلك واضحا في التاريخ الذي أصدر فيه الكونجرس الأمريكي قانون جاستا والذي لم تذكر فيه المملكة في نصه ولم يُشار فيه أيضاً لأحداث 11 سبتمبر، بل هُدف منه أن يكون فضفاضاً للضغط به سياسياً، ولم يكن صدفة السرعة في إصداره لو تمعنا بتاريخ ذلك تزامنا مع كشف السرية عن 28 صفحة المحجوبة من التقرير الرسمي للجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر. فقانون جاستا أقره مجلس الشيوخ في شهر مايو من عام 2016 وتم السماح برفع السرية عن الصفحات 28 المحجوبة من تقرير لجنة أحداث 11 سبتمبر في يوليو 2016 وتم إقرار قانون جاستا بأغلبية مجلس النواب في شهر سبتمبر 2016.
التوترات الأخيرة في العلاقات السعودية الأمريكية مصدرها كذلك بعض المشرعين في الكونغرس الأمريكي والتي بدأت بشهر أكتوبر المنصرم عقب مقتل جمال خاشقجي رحمه الله ونية الكونغرس إصدار تشريع ضد المملكة تتعلق بقضية مقتله والحرب في اليمن ومقاطعة قطر، ومن خلال الوهلة الأولى لهذه النوايا نري التخبط الواضح لهؤلاء القلة من المشرعين في ربط قضايا لا تمت بصلة ببعضها البعض، مما يذكرنا بالمقولة العربية الشهيرة «سمك، لبن، تمر هندي». ومع محاولة هذه القلة من المشرعين الأمريكيين في تهديد العلاقات الاستراتيجية للعلاقات السعودية الأمريكية فالمؤشرات المستندة على الحقائق وليس على الرغبات المدفوعة بالنزوات والمصالح الضيقة سوف يتم إسقاطها من قبل أكثرية المشرعين الأمريكيين والذين لن يسمحوا بتمرير تشريعات ستكون نتيجتها وخيمة على مستقبل العلاقات الاستراتيجية والمتجذرة لعقود من الزمن بين المملكة وأمريكا. وحول القضايا التي ستكون محورا للنقاش في الكونغرس فالحقائق واضحة جلية لمن يرغب بها ويبحث عنها ففي قضية خاشقجي فقد تمت إدانتها من قبل قيادة المملكة وشكلت لجنة لإعادة هيكلة جهاز الاستخبارات العامة وصرح المدعي العام بأن كل من شارك في جريمة القتل سوف ينال جزاءه ولن يستطيع أي شخص متورط في الجريمة من الإفلات من العقاب وبأن محاولة تسييس قضية جنائية بأدلة وقرائن غير مباشرة «CircumstantialEvidences»» ويعرفها المشرعون الأمريكيون قبل غيرهم، وبأنه لا يعتد بها كإثبات في النظام القضائي الأمريكي وبأن محاولة ذلك مرفوضة جملة وتفصيلا من قبل قيادة المملكة وحكومتها وشعبها، وموضوع مقاطعة قطر فهو لم يحدث بين ليلة وضحاها كما تحاول قطر تصويره، فهو ملف له جذوره الممتدة لسنوات والتي أخفقت فيها الدوحة مرات عدة من الالتزام بما تعهدت بعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول المقاطعة لها، ومع تضرر المملكة من المقاطعة فيما يخص العوائد المالية التي تجنيها من تجارتها البينية بينها وبين قطر فقد اختارت المملكة الانحياز للمبادئ التي تؤمن بها ودافعت من أجلها في كل المحافل الدولية وخصوصا المتعلقة بمكافحة الإرهاب بكافة أشكال تنظيماته وأيدولوجياته، أما الحديث عن الحرب في اليمن فهو حديث ذو شجون فمن هي الجهة التي تلام في استمرار الحرب ومعاناة اليمنيين!؟، هل سيتم خلال النقاشات في ردهات الكونغرس الأمريكي إطلاع المشرعين الأمريكيين كيف أن الحوثييننقلبوا على السلطة الشرعية لليمن ويتلقون الأسلحة من نظام الملالي بطهران باعتراف الأمم المتحدة بما في ذلك الصواريخ الباليستية التي تطلق من قبل عصابة الحوثي على المناطق الآهلة بالسكان المدنيين في المملكة والإمارات!؟، هل سيتم إطلاعهم بأن الحوثيين كانوا هم الطرف الذي يُفشل المرة تلو الأخرى كافة محادثات السلام من جنيف الأولى مروراً بمحادثات الكويت التي استمرت لثلاثة أشهر وجنيف الثانية التي رفضوا الحضور لها في آخر لحظة بعد أن وصل وفد الشرعية لها، أو بمحادثات السويد الجارية حالياً والتي تنقل لنا وسائل الإعلام منها التعنت الحوثي في كل القضايا المطروحة للنقاش!؟ هل سيتم إطلاع المشرعين الأمريكيين وفي سابقة تاريخية بقيام دولة بإنشاء مركز إغاثة قبل دخولها الحرب وصرفت على جهود الإغاثة في اليمن مليارات الدولارات شملت حتى اليمنيين الذين تقطعت بهم السبل مع نشوب الحرب وإعادة تأهيل الأكفال الذين زجت بهم عصابة الحوثي في آتون الحرب، حيث قامت المملكة ومع الأشهر الأولى من اندلاع الحرب بإطلاق مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية وذلك انطلاقا من حرصها وقيادتها على التخفيف على المدنيين من تبعات الحرب!؟ هل سيتم إطلاعهم بأن المملكة قدمت ملايين الدولارات لمنظمة الصحة العالمية لعلاج ومكافحة مرض الكوليرا في اليمن وللحد من انتشاره!؟، هل سيتم إطلاعهم بأن هناك جالية يمنية تفوق 2 مليون يمني يعيشون بسلام في المملكة ومسموح لهم بالعمل وتقدم لهم كافة أنواع الرعاية الطبية والتعليمية!؟، هل سيتم إطلاعهم وليس من سجلات المملكة بل من سجلات الأمم المتحدة بأن المملكة تعتبر الدولة الأولى في العالم في تقديم المساعدات لليمن وأهله ومنذ عقود!؟، هل سيتم إطلاعهم بأن الحوثيين رفضوا تطبيق قرارات مجلس الأمن الداعية لإنهاء الحرب في اليمن ومنها القرار 2216 والذي تم تمريره بأغلبية ساحقة بتاريخ14 أبريل 2015 ولو انصاع الحوثيون له لانتهي النزاع وانتهت معه معاناة المدنيين في اليمن ومنذ سنوات!؟ القائمة تطول والحقائق لا يمكن تجاهلها.
من المؤكد بأن غالبية المشرعين الأمريكيين في الكونغرس الأمريكي بمجلس شيوخه ومجلس نوابه سوف يستمعون لصوت العقل فيما يخص علاقة بلادهم مع المملكة والتي هي علاقة ساعدت دوماً في استقرار وأمن منطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره، وسوف لن يرهنون مستقبل هذه العلاقات لأصوات نشاز منفعلة ومتشنجة تنطلق من حسابات ضيقة يبدو أنها لم يعد بالإمكان حتى وصفها بالحزبية بل هي حسابات شخصية في محتواها وفي مقاصدها.