عبدالعزيز السماري
في حراك مخالف للانطباع الشرقي عن الغرب، خرجت في باريس احتجاجات شعبيّة في شهر أيار/مايو 2018، ثم زادت شهرتها وقوّتها بحلول شهر تشرين الثاني - نوفمبر من نفس العام، واختارت الحركة السترة الصفراء كرمزٍ مميز لها باعتبار أنّ القانون الفرنسي يفرض منذ عام 2008 على جميع سائقي السيارات حمل سترات صفراء داخل سياراتهم عند القيادة كإجراء وقائي حتى يظهر للعيان في حالة اضطرار السائق الخروج من السيارة لسبب ما..
ووصل تأثيرها إلى خارج الحدود، وقد تنتشر إلى أبعد من ذلك، ويعني ما حدث ظهور فجوة غير متوقّعة بين المجتمع والنخب الغربية الحاكمة، وقد تؤدي إلى نهاية عصر النخب الحاكمة في الغرب، وإلى عهد قريب، كانت عقلية المفكرين الغربيين تحكم من خلال شعار الحرية الاجتماعية والاقتصاد الليبرالي، لكن ظهور الثورة الوطنية ضد «القيم النخبوية» تعبير عن انهيار الثقة من جديد بين الناس والمؤسسة الغربية الحاكمة.
وكردة فعل على الثورة الجديدة، لا تزال المؤسسات السياسية الغربية غير قادرة على فهم ومواكبة التغيير، وما زالت عالقة في فقاعة أفكارها التي أصبحت قديمة نوعاً ما، فهم غير قادرين أو غير راغبين في سد الفجوة من أجل تجديد العقد الاجتماعي، وكثيراً ما يغذيون الثورة من خلال مواقفهم السلبية ضد مطالب المواطنين الجديدة..
المؤسسات السياسية الغربية مشلولة حالياً بفجوة سياسية جديدة تظهر في المجتمع الغربي نتيجة فشل العولمة، فمن ناحية، تغذي الحركات الوطنية الموقف المتزايد ضد الهجرة المتزايدة، لكن الحراك الأهم في المجتمعات الغربية هو حركات المساواة الراديكالية التي تتزايد على أساس قيم المساواة (المساواة بين الناس والثقافات والأديان) وإعادة توزيع الدخل من خلال حراك الديناميكية السياسية الجديدة، وهو يعني تجاوز عصر الحداثة وتبعانها، والتي أصبحت مكتسباً قديماً، والمطلوب الآن مزيد من الشفافية والمساواة..
ترامب وبركسيت هما جزء من الاتجاه العالمي للوطنية، كما هو واضح في بيانات المسح من روسيا وتركيا والهند، فالقادة السياسيون يحشدون الدعم بين المواطنين في بلدانهم من خلال إظهار جانبهم الوطني، ويضعون أنفسهم في معارضة للقيم العالمية التي يروّج لها الغرب المهيمن منذ عقود، ويعتبرها البعض ربما صحوة وطنية ضد الأفكار العالمية، وقد يكون فيها حنين لأيام الإمبراطوريات الكبرى التي تغزو الخارج، وتفرض على الآخرين الأتاوات والضرائب..
في جانب آخر في المعادلة الجديدة، أدت ثورة الويب أيضاً إلى زيادة في مشاركة المواطنين من القاع (من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وخروج حركات واختراقات تفضح أسرار الدول في فضاء الويب، وتقدم معلومات في غاية السرية للعوام، وهي تمثِّل اتجاهاً راديكالياً للشفافية، وهو ما يعني نهاية عصر النخب والأفكار والأيدولوجيات العالمية..
ما يجري في الغرب في حد ذاته متغيّر جديد، وقد لا يستطيع أياً كان التنبوء إلى أين سيتجه، لكنه بالتأكيد سيخلق أجواء جديدة، وربما بداية عصر جديد في الخطاب الثقافي السياسي الغربي، وقد تتسع دوائر النخب إلى أبعد من حالة المفكر أو المفوه أو القيادة الشعبوية، إلى خروج حركات مؤثّرة تعمل من أجل تحقيق المصالح والمنافع مباشرة والمطالبة بمزيد من الشفافية، ولكن بدون وسيط ديني أو ثقافي أو أيدولوجي..