أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: حقيقة الشعر العامي في نجد التي تميّزه عن العامية: توجب أن يصطلح عليه بالعامي؛ فإذا نسب إلى لهجة أهل نجد تميز عن عامية الأقطار الأخرى.. وقال الضّبيب: فإنّ تسميته بالشعر البدوي: ليس المفروض فيها أن تكون جامعة مانعة كما يظن الأستاذ [هو شيخ الجميع عبدالله ابن خميس رحمه الله تعالى]؛ وإنما المقصود أن تكون أقرب إلى الحقيقة، وأدلّ على صحة النّسبة؛ لأنّ في نسبته إلى النّبط أو الأنباط مغالطة كبرى، وخطأ شائع لا مبرر له [بل لا مسوّغ له؛ واللحن كثير عند هذا الضّبيب]، ولا سند، ولا يجوز السكوت عليه، ومن الواجب تصحيحه؛ وهي تسمية يقصد بها غمز هذا الشعر بالعجمة [قال أبو عبدالرحمن: الغمز جائز؛ بل واجب غيرةً على الفصحى]، وابتعاده عن الأصل العربي؛ وليس الأمر كذلك؛ إذ إنه أقرب إلى الشعر العربي القديم من كثيرٍ مما ينظّم في الوقت الحاضر باللغة الفصحى.. ومما يؤيّد ما أذهب إليه أنّ لغة هذا الشعر هي لغة البادية؛ وليست لغة المدن والحواضر؛ وهي لغة أدبية، وليست عاميةً مبتذلةً.. ينظمه شعراء الشمال البداة، وينظمه سكّان الحواضر في نجد والحجاز، وينظّمه سكّان السواحل وقطّان الجبال؛ فتجد لغةً أدبية واحدةً منتظمةً لا تكاد تجد فيها من الفوارق إلا الطفيف القليل.. هي لغة تراثية يصل إليها الشعراء بالحفظ والممارسة والرواية تماماً كما كان الشاعر العربيّ الجاهليّ القديم يتعلّم لغة الشعر الجاهلي؛ فيصدر شعراء الجزيرة في ذلك العصر عن معينٍ واحدٍ هو اللغة الأدبية الفصحى؛ وهذا الأمر الذي أذهل الدكتور (طه حسين) عند دراسته الشّعر الجاهليّ؛ فذهب إلى أنّه شعر منتحل بفعل توحّد اللغة الأدبية.. [قال أبو عبدالرحمن: سبب توحّد اللهجة: إنما هو من تصرّف الرواة؛ فإذا روي لغير أهل نجد روي بلهجةٍ غير لهجتهم].. ولو درس الشّعر البدويّ لرأى أنّ الاختلاف يسير؛ وأنّه على خطى هذه اللغة البدوية المشتركة.. وعندما أقرّر أنه شعر بدوي: فإنّني لا أنزع الهوية المدنية من قائليه الذين يسكنون المدن والقرى، ولا أسلب التحضّر عنهم: [قال أبو عبدالرحمن: إنما نسلب عن أدبهم غلبة الفصاحة، ونصفه بالعامية]؛ وإنّما أقول: إنهم يسيرون على النهج البدوي وإن كانوا يسكنون المدن، ويعيشون حياةً متحضّرةً تماماً كما كان أسلافهم العرب القدماء يسكنون البصرة والكوفة وبغداد ودمشق وخراسان، وينشئون شعراً سماته بدوية، وأفكاره بدوية، ولغته مستقاة من لغةلبادية؛ ثم إنّ التسميات (وخاصة في مجال المنسوبات): لا يطلب منها أن تكون جامعةً مانعة؛ فهذه الموشحات الأندلسية تسمّى بهذا الاسم وقد نظمها في الأصل أهل الأندلس، ثم نظمها المغاربة والمشارقة على حدٍّ سواء، ولا تزال توصف بالأندلسية نسبةً إلى منشئها.. بل لو تأملت كثيراً من المنسوبات في حياتنا لوجدت أشياء كثيرةً ننسبها إلى أماكن وإلى أقطارٍ إشارةً إلى أصلها الأول الذي نجمت منه.. وكذلك كان العرب القدماء يفعلون؛ فنسبوا السيوف إلى الهند وليست كل سيوفهم هندية، ونسبوا الرماح إلى الخطّ وليست كل رماحهم خطية.. ونحن الآن ننسب الخزف إلى الصين، فنقول: الأواني الصينية؛ وليست كلّها مصنوعة في الصين، وكثير من البحار والأماكن تنسب إلى أممٍ معيّنة بفعل اقترابها أو إشرافها عليها؛ فالبحر العربي ينسب إلى العرب مع أنّه يطلّ عليه أمم أخرى غير عربيةٍ؛ وكذلك المحيط الهندي لا يقتصر على الهند، والقنال الإنجليزيّ لا يملكه الإنجليز وحدهم؛ وهكذا لا يطلب في هذه المنسوبات أن تكون جامعةً ومانعة؛ وحسبها أن تدلّ على الأصل أو المنشأ؛ فإذا نسبنا هذا الشعر إلى البدو فقد ألصقناه بالبادية وأهلها لثلاثة أسباب مهمة: الأول أنه نشأ نشأة بدوية.. والثاني أنه يعبّر عن لغةٍ وأفكارٍ في معظمها بدوية.. واللغة التي يصاغ بها الأدب هي الأصل في نسبة الآداب وليست الجنسية.. ألا ترى أنّ (جبران خليل جبران) ينظم شعراً بالإنجليزية، وينتج إنتاجاً باللغة الإنجليزية؛ فهل يتجرّأ أحد على القول بأنّ شعر جبران هذا شعر عربيّ بلغة إنجليزية؟.. كلا؛ وإنما يعرف الناس جميعاً أن إسهام جبران باللغة الإنجليزية ينسب إلى الإنجليزية وهو جزء من تراثها؛ وكذلك ما كتبه بعض الشعراء العرب؛ بالفارسية لا يكاد ينسب إلى العربية؛ وإنما تنسب إلى الفارسية؛ فإذا كتب المتحضّرون شعراً بلغة أدبية بدوية فالأولى أن ينسب ذلك إلى هذه اللغة.. [قال أبو عبدالرحمن: وهي اللهجة العامية؛ لأنّ لغة البادية إما فصيحة وإمّا عامية؛ لا تكون اللغة فصيحة إلا إذا خلت من العامية؛ فإذا غمرتها العامية فهي عامية وإن كان فيها ظاهرات من الفصاحة].. علاوة على أن الشعر كما أوضحت قد نشأ في البادية، وانطلق منها إلى المدن..والسبب الثالث أن أقدم تسمية له هي تلك التي أشار إليها (ابن خلدون)؛ وهي قوله: إنّ أهل المشرق يسمّونه بالشعر البدوي [.. انظر كتاب (على مرافئ التراث) ص 109 - 111]؛ وإلى لقاء قريب إنشاء الله تعالى، والله المستعان.