د. عبدالحق عزوزي
بدأ المنتدى الاقتصادي أعماله في دافوس وسط حالة من الضباب السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يخيم على العالم. ما العمل أمام مدرسة تظل تدافع عن الليبرالية وأخرى تدافع عن الحمائية؟ ما مضمون المخاوف من الشعبوية وتأثيرها على الاقتصاد؟ وأي تأثير على الاستثمارات في ظل المخاوف من انعدام الاستقرار؟ خاصة ونحن نعلم أن أوروبا ليست بخير، بما في ذلك اقتصادي ألمانيا وفرنسا. ولا جرم أن هذا هو الانطباع السائد في الصالونات الفكرية وفي التقارير المؤسساتية الأوروبية البارزة وما لحظناه رأي العين في جولاتنا الأوروبية الأخيرة. فالدول الأوروبية تعاني أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية قل نظيرها وهناك مرحلة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية تأثر بشكل بالغ على فرنسا وعلى كل الدول الأوروبية وتخضع المجتمعات بذلك الفرنسي لعملية تحوّل مع إلغاء الامتيازات وبروز الجماعات السياسيّة الراديكالية إلى جانب بروز دور عموم الجماهير الذين يبرزون كل يوم كفاعلين أساسيين في تحديد مصير البلد كقضية السترات الصفر.
ونحن نتحدث عن المدرستين الليبرالية والحمائية، نتذكر كيف تحولت دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية بين عشية وضحاها من الليبرالية اللامتناهية إلى متدخلة حمائية حفاظا على مؤسسات الدولة من الانهيار مما أدى إلى تغير الميكانيزمات الاقتصادية والمالية الدولية. فالأزمة المالية التي عاشها العالم سنة 2008، والتي أصبحت أزمة اقتصادية، ليست الأولى في التاريخ وإنما هي الأولى التي يمكن اعتبارها كونية.
ونحن نتذكر كيف عمل البنك المركزي الأمريكي على خفض نسبة الفائدة منذ سنة 2001، مقدما بذلك مصدرا جديدا للإثراء لمن يتوفرون على مهارات الاستثمار بشكل أفضل عن طريق الاقتراض. وهكذا تهافتت الأسر الأمريكية على القرض الشبه المجاني (1 في المائة نسبة الفائدة)، كما استفاد قطاع العقار بشكل كبير من هذه الهبة المالية. وطيلة هذه الفترة من انخفاض نسبة الفائدة (2001- 2004)، حصل نمو نقدي مهم في الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن هذا النمو النقدي لم تقابله زيادة في أسعار الاستهلاك، بل استعمل توسيع الدين والكتلة النقدية في شراء الأصول المالية والسكن (بما في ذلك الرهن العقاري)، مما أدى إلى فقاعة عقارية تحولت بعد ذلك إلى فقاعة مالية.
وقد تفاقمت هذه الوضعية بسبب الضغوطات القوية جدا والتي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية على مؤسسات الائتمان حتى تقبل هذه الأخيرة منح قروض للأسر التي لا تقدم ضمانات كافية تحت طائلة الاتهام بالتمييز. وقد أصدر البنك الفيدرالي الأمريكي دليلا للأبناك يرفض فيه استعمال معايير «عفا عنها الزمن» بما في ذلك معيار مبلغ السداد/ الإيرادات أو تاريخ القروض السابقة للطالب.
وفي بداية شتاء 2006، كانت العديد من الأسر الأمريكية الأكثر فقرا، والتي عرضت عليها القروض العقارية الرهنية، وجدت نفسها غير قادرة على سداد ديونها. وبدأت البنوك في مصادرة الممتلكات، كما بدأ الملاكون المثقلون بالديون في بيع ممتلكاتهم قبل أن تصادرها البنوك، مما أدى إلى عدم التوازن بين العرض والطلب في سوق العقار وانخفضت الأسعار. وهكذا، وجدت البنوك ومضاربوها «الانتحاريون» أنفسهم بمساكن مصادرة وغير قابلة للبيع، وباستثمارات لا قيمة لها إضافة إلى مشاكل السيولة. وهكذا، تحولت المحافظ المالية المضاربة التي كانت تجلب أرباحا هامة للأبناك الأمريكية والأوروبية، إلى كابوس مالي. ففي الواقع، وابتداء من منتصف 2007، بدأت كل الأصول المورقة تثير الشكوك واكتشفت البنوك الأمريكية ثم السويسرية والإنجليزية والألمانية والفرنسية أن لها شيئا من هذا في كشوفاتها، والعديد من الدول بدأت ترى فرار رؤوس أموالها، وصارت البنوك في كل الدول المتقدمة قلقة مما يمكن أن يوجد من «سموم» في حساباتها؛ وفي بداية شتنبر 2008، تحولت أزمة الرهون العقارية إلى أزمة بنكية، وانهار البنك الأمريكي الشهير Lehman Brothers. وبلغت الخسارة إلى ما يقارب 4 مليار دولار.
كان النظام المالي الأمريكي على حافة الانهيار في أكتوبر 2008 بسبب انعدام السيولة. وقد تم إنقاذ البنوك وشركات التأمين الأمريكية عن طريق التجنيس والوعد بالمال العمومي غير الموجود، وأصبح الدين الخاص عموميا. عبرت الأزمة، بشكل بطيء لكن بشيء أكيد، من الولايات المتحدة الأمريكية المحيط الأطلسي لتصل إلى البنوك الأوروبية الكبرى. وهو ما جعل كل الدول وبدون استثناء تتغاضى عن سياساتها الليبرالية وتفرض قواعد حمائية أبى من أبى وشاء من شاء.