أشعر بأسى عميق كلما قرأت أو شاهدت مثقفاً كبيراً أو أكاديمياً في العلوم الإنسانية يتحدث بحسرة على تغيّر القيم المجتمعية والروابط الأسرية نحو الاسوأ !!. اتقبّل أن تأتي هذه الحسرة من شخص غير متخصص أو غير مطلع على مبادئ العلوم الاجتماعية والتغيّر الاجتماعي والثقافي. بل أتضامن معه وبقوة واجد ألف سبب يبرر ألمه وحسرته. لكنني لا استطيع أن استوعب بأن المتخصص والمطلّع على العلوم الاجتماعية غير قادر أن يفهم بأن القيم والمفاهيم والاخلاق البشرية ليست ثابتة وإنما متحركة ومتغيرة بتغير طرائق المعيشة وظروف الحياة اليومية التي يعيشها أفراد المجتمع. فهذه القيم ماهي الا منتجات بشرية يوجدها الإنسان ليضبط حياته من خلالها، وكلما تغيرت طرائق معيشته قام بذكاء وبشكل لا واعي بتغيير هذه القيم .
طرائق المعيشة تصنع المجتمعات، والمجتمعات تصنع عقلية أفرادها. وهناك تناقض حاد ما بين العقلية التي تفرزها المجتمعات البسيطة ( القبيلة/القرية) للفرد فيها وما بين العقلية التي يفرزها المجتمع الصناعي ( مجتمع المدينة المعاصرة) المعقد لأفراده. وهذه المتناقضات لا يمكن دمجها بأي حال من الأحوال مهما رغبنا و تطلعنا لذلك. ونحن مع بالغ الأسف نرغب بالمتناقضات مجتمعة .أصالة الماضي وقيمه وجماله متمازج مع معرفة العصر وتطور التكنولوجيا وابداعها، وهذا بالتأكيد لا يأتي لمجرد التمني. بل هو لا يأتي مطلقاً، وإنما يصل في مرحلة ما إلى حالة وسطية من التعايش يحتاج الوصول إليها إلى مرحلّة تغير اجتماعية كبيرة و خطيرة وذات فاتورة عالية.
الغالبية العظمي لدينا لا تدرك بأن المجتمع المدني يٌبنى بتركيبة فكرية و اجتماعية و قرابية ترتكز على التنوع و الاختلاف من حيث البُنى الفكرية و على الأسرة النووية و العلاقات والروابط القرابية الضيقة جدا, ولكون هذه مختلفة تماما عن المجتمع البسيط المبنى على التشابه و الأسر الممتدة و الترابطات القرابية فمن البديهي أن يفرز هذا المجتمع (أي المجتمع المدني الحديث) فرد مختلف و فكر مختلف و علاقات مختلفة وبالتالي سلوكيات اجتماعية مختلفة ..
و يظهر لنا جليا غياب هذه الصورة عن غالبية المراقبين الاجتماعيين لدينا لكونهم يطلبون متناقضات لا يحتمل أن يفرزها مجتمع واحد ، فهم ليسوا قادرين على أن يؤمنوا بأنه لا خيار سوى افراز مجتمع واحد ، أما مجتمع قروي/بدوي/بسيط يراقب افراده بشدة و لا مجال للخروج عليه سواء بالسلب أو الايجاب .. أو مجتمع مدني معقد يختلف الافراد فيه ويتصارعون و يخرجون بإبداعات في قمة العبقرية و جرائم مروعة في غاية الشناعة و البدائية .. فلا يُطلب الابداع من مجتمع بسيط ولا يطلب السلام و المحبة و التعاضد في مجتمع معقد
** **
- تركي رويع