د عبدالله بن أحمد الفيفي
(الدوبيت): وزنٌ عَروضيٌّ، قيل إنه دخل العربيَّة من الفارسيَّة. ويدلّ اسمه الفارسي على ذلك، وعلى أن الأصل فيه أن يُنظم على بيتين بيتين. منه رباعيٌّ، تكون أشطر بيتَيه الأربعة بقافية واحدة، وأعرج يندّ الشطر الرابع عن قافية الأشطر الثلاثة، ومنه ما يلتزم الوزن ويقفِّي على طريقة القصيدة العربيَّة، دون تنويع. ويسمِّيه (عبدالستار النعيمي) «بحر الميزان»، ذاهبًا إلى أنه «بحر متأصّل بتفاعيله من بحور الشِّعر العربي التي استنبطها (الخليل)، يرحمه لله. عربيّ المنشأ، شأنه شأن الموشَّح؛ لكنه، كما وجدنا أكثر التراث العربي، قد طُلِي بصبغة أعجميَّة صِرفة نتيجة ضياع أو طمس أولياته».
ومهما يكن من أصلٍ، فإن من يسمع هذا الوزن مغنًّى يُدرك موسيقيَّته غير النابية عن الأُذن العربيَّة، غير أنه سيحار في إدراجه في العَروض العربي، وفق بحوره الستة عشر. وهذا ما حَدَثَ لي حيال نشيدٍ أرسله إليّ صديقٌ كويتيّ لإبداء الرأي، ومعرفة معاني بعض الكلمات. وهو عن قصيدة للشاعر اليمني (عبدالله العلوي الحداد)، التي نشرها الشاعر الكويتي (عبدالله الفرج)، وقام بغنائها (عبداللطيف الكويتي)، وغيره، ومنها:
الحمدُ لمَنْ قَدَّرَ خَيرًا وقَبَالا
والشُّكرُ لمَنْ صَوَّرَ حُسْنًا وجَمالا
فَرْدٌ صَمَدٌ عَنِ صِفةِ الخَلْقِ بَرِيْءٌ
رَبٌّ أَزَلَيٌّ خَلَقَ الخَلْقَ كمالا
بالمَجدِ، وبِالجُوْدِ، وبالجدِّ تجَلَّى
ما مالَ عَنِ العَدْلِ، ولا نالَ ملالا
ذو القُوَّةِ، ذو الطَّوْلِ، وذو الفَضْلِ، مَلِيْكٌ
ما دَوَّحَتِ الأَرْضُ جَنوبًا وشَمالا
فوزن هذه الأبيات (مستفعلتن/ مفعولُ/ مستفعلتن تن) في الشطرين. ذلك أن أصل وزن الدوبيت (مستفعلتن/ مفعولُ/ مستفعلتن). ومن صُوَره أن يأتي مرفَّل العَروض والضرب، أي بزيادة سببٍ خفيفٍ في آخر التفعيلة الأخيرة، فتصير: (مستفعلتن تن). ويدخل حشوَه الخَبْنُ والطَّيُّ، على التعاقب، أي إذا دخل أحدهما لم يدخل الآخَر. لذلك تُصبح (مفعولُ) تارةً (مَعُوْلُ)، وتارة (مَفْعُلُ).
وبغضّ النظر عن ركاكة الأسلوب في قصيدة العلوي، فما يعنينا هنا أن الدوبيت خيارٌ موسيقيٌّ شِعريٌّ رائق في الذائقة العربيَّة. وغناؤه يكشف عن جمال موسيقيَّته أكثر من قراءته.
ومن المعروف في التراث العربي أن وزن الدوبيت عُرف منذ القرن الثالث الهجري، وازدهر في شِعر القرون المتأخِّرة، من السابع الهجري إلى الثاني عشر. ومنه ما اشتهر في الغناء العربي، كقصيدة (البهاء زهير):
يا مَنْ لَعِبَتْ بهِ شَمُوْلٌ
ما أَلْطَفَ هذهِ الشَّمائلْ
نَشْوَانُ يَهُزُّهُ دَلالٌ
كالغُصْنِ مَعَ النَّسيمِ مائِلْ
لا يُمْكِنهُ الكَلامُ لكنْ
قد حَمَّلَ طَرْفَهُ رَسائِلْ
ما أطْيَبَ وَقتَنا وأَهْنى
والعاذلُ غائبٌ وغافِلْ
وكثيرًا ما نجد وصف هذه الأبيات في الأوساط الغنائيَّة بأنها «موشَّح». وهذا خلط، فليست بموشَّح، بل هي «دوبيت». وقد ذكر محقِّقا ديوان البهاء زهير، (محمَّد أبو الفضل إبراهيم ومحمَّد طاهر الجبلاوي)، أن القصيدة «من بحر السلسلة، وهو مجزوء الدوبيت»! والصواب أنها ليست من مجزوء الدوبيت، بل من تامِّه، مكشوفِ العَروضِ حَذَّائها، مكشوفِ الضربِ حَذَّائه. أي أن تفعيلاته: (مستفعلتن/ مفعولُ/ مستفْ) في المصراعين.
فما أكثر المهمل من تراثنا العربي وما ألطفه، لو أحياه العرب، عِوَض تلقُّف التجارب، غربًا وشرقًا!