عبده الأسمري
بين الماضي والحاضر «مسافات» و«استيفاءات»، وبين الذاكرة والاستذكار «ترابط عميق» و«استذكار أعمق».. ترتب «الأحداث» مواعيدها الأزلية؛ فتسقط تداعياتها على الإنسان؛ فيعيش بين مد وجزر من الشعور.
يشدو الإنسان بنجاحات ماضيه، ويغدو على حرث «هالك» من واقع مستعصٍ؛ فيعدو إلى حيث «التدبير»؛ فيظل في معادلة المقارنة، ويقبع تحت متراجحة التغيير..
لا يمكن لإنسان مهما قوت عزيمته واستقوت همته أن يعيش بمعزل عن تراتبية الزمن وتعاقبية العِبر.. وليس بمقدوره أن يتجاوز أسوار الافتراضات العاجلة؛ لينال حظًّا من الأمنيات المؤجلة، ولكنه يظل سائرًا بين قطبية الأسباب والنتائج وحائرًا بين غيبيات «الحظ» ومتاهات «التوقع».
الحياة جملة من الشؤون التي لا يمكن فصلها عن العقل وانتشالها من الداخل.. حتى وإن كان النسيان علاجًا والتناسي منهاجًا.. ولكنها تظل على قيد «الاعتبار»، وقد تتحول مع الزمن إما لشجون تغمر النفس بالحكمة، أو سجون تعزل الروح عن جمال الحياة، وتفصل الواقع عن حتمية التفاؤل.
على طاولات الدراسة، وبين أسطر الكتب، نستذكر «المعلم الأول»، ووجهه الموشوم في ذاكرتنا.. ونتذكر الخطوط البريئة الأولى التي رسمنا فيها شجرة ومنزلاً وسيارة وبحرًا وسماء وقمرًا ونهرًا في مشهد واحد.. ثم لا نلبث أن ننكص إلى أحاديث التوجيه في نصائح الآباء و«علقات» التأديب في محافل التهذيب..
في الشوارع والشاشات والأماكن نرى «تشابه» التقاسيم البشرية، واشتباه المصالح، ومواقف لا تتوقف بين مثيرات واستجابات تقع في حيز «القناعة» أو الرفض، والتشجيع أو الشجب، ونلتمس لأنفسنا عشرات «الأعذار» بحثًا عن «نصيب مفروض» في منافع الحياة في حين يظل العاقل «خصيم نفسه»، والجاهل «تبيع سفهه».
في شعائرنا الدينية نلمس، وبأنفس «لوامة» و«مطمئنة»، مستويات «التصحيح» ومواقف «الثبات» ولذة «الصلاح» مستلهمين حروفنا الأولى التي تعلمنا منها «الدين»، وعرفنا بها «الحياة»، وعشقنا فيها المعرفة.
تتحرك الذاكرة، وتتفاعل بمجرد أن نضيف في سجلاتنا «أشخاصًا»، ونستضيف وسط مساجلاتنا «شخصيات»، ونحن نتوسم الخير؛ فنلمس غيابه، ونتعشم المعروف؛ فنصعق بتغيبه؛ فنكتب الخيبات المؤكدة بأسباب آخرين، كانوا دون التوقعات، وأدنى من التأملات؛ لذا كان «المكر» و«الخداع» و«السوء» صناعة بشرية بئيسة موبوءة بالسوداوية.. وظلت «المحاسن» اقتدارًا لا يجيده إلا الماهرون والنبلاء ممن لا يعرفون الخوض في بؤر الشر، الجاهلون بالاحتيال، الراسبون في اختبارات الغدر.
بين استحضار الآلام واحتضار الفرح في حضرة «الفاجعة» تتلاشى «العزائم»، وتتحول إلى هشيم تذروه الرياح وسط عاصفة مدوية من الاستذكار المشفوع بقوة الملاحظة، وسطوة التدقيق والتفنن في ربطها بحاضر «قائم»، وارتباطها بمستقبل يحيطه «التشاؤم»؛ لذا كان من الأكمل للإنسان أن يصنع «خطته الاستباقية»، ويجهز «عتاد مقاومته السلوكية»؛ لينقل موجة الذاكرة من خانة «الإجبار» إلى «الاختيار» حتى يتجاوز عقبات الحنين والأنين الممتلئة بألم السنين.
شؤون وشجون شتى في ذاكرتنا التي تسير بتتابع وتتبع، وتتقاطع مع محطات حياة متقلبة ومتنوعة المعطيات والعواقب..
لذا فإن هذه الذاكرة هي «حصاد» عمر، و«عتاد» عيش، يتم تحديثها «تلقائيًّا» مع كل ظرف وموقف وسلوك..
ونحن البشر كُرمنا بالعقل، وتميزنا بالفهم، وتقدمنا بالتمييز.. وعلى الإنسان أن يحشد جند «مناعته» الحاضرة لمواجهة اجتياح فيضان «الذاكرة» المؤلم حتى يخرج من قبو العقل الباطن إلى ساحات «الواقع»؛ ليرى أن الماضي حديث، وليس حدثًا وسط حظوة حاضر لا يقبل التأخير أو القسمة على الأزمنة الفائتة.
وعلينا أن نجيد إدارة «الذاكرة» جيدًا، وأن نملأها بالإيجابية، ونشبعها بالاختيار في التذكر والتدبر حتى نملأ مساحاتها «الفارغة بالفوائد والمنافع» عند استرجاع أيامنا ولحظاتنا حتى تظل أجزاء ذاكرتنا مشرقة، تسلط الضوء على حياة الإنسان، وتتجاهل الأركان المظلمة؛ لتضيئها استباقًا بأماني الغد وأمنيات المستقبل.