د. جاسر الحربش
العقل للتفكير والجسد للتنفيذ، العقل يحتاج للحرية والجسد كذلك، وكما أن للعقل حدوداً يعرفها هو نفسه فللجسد حدود يحددها العقل. حدود حريات الجسد أدركتها المجتمعات البدائية الأولى أثناء انتقالها من العري إلى ستر ما يستحي منه العقل. كون الحضارات البشرية بعدما تبلغ مراحل متقدِّمة من القوة تبطر وتنكص نحو اللهو الجسدي بممارسات ما قبل الحضارة فإن ذلك لا يغيِّر من حقوق الجسد على صاحبه. على سبيل المثال تدر منافسات الملاكمة والمصارعة أموالاً طائلة، لكن ارتباطها بتلفيات الدماغ والرعاش والخرف من الحقائق الطبية المؤكدة. كون جسد المرأة وأحياناً الرجل تحول في القرنين الميلاديين الأخيرين إلى سلعة اقتصادية هائلة الأرباح لا يغيِّر من حقيقة أن المرأة السلعة مهما كانت جميلة وعالية الثمن لا تُقارن بالمرأة الجميلة العاملة في المجالات العلمية والإبداعية. الجميلة في مختبر أو مخبز أو دكان أو على صهوة جواد أكبر قدراً واحتراماً من المرأة الملاكمة والمصارعة والرقاصة وعارضة ملابس السباحة.
تلازم العقل للتفكير مع الجسد للبناء والإبداع والدفاع عن النفس يحتاج إلى إطلاق الحريات العقلية والجسدية في حدودها المحققة للفائدة بشرط أن تقف دونما هو محقق للإضرار المعنوي والمادي. أوضح ما يكون هذا التكامل عندما يتفق شخصان أحدهما مشلول الجسد ويمتلك طاقة فكرية عالية، والآخر قوي البنية ولكن ضعيف القدرات الفكرية. الناتج الفكري والجسدي للشخصين يكون عندئذ في حدود الكمال المتوقّع للعقل والجسد لكل واحد منهما على حدة.
يمكن اعتبار ما سبق مقدّمة للبحث عن الناتج الفردي والاجتماعي والوطني عندما يخضع الإنسان الطبيعي التكوين للتقزيم والتعطيل عبر الأجيال المتتابعة. التعطيل المزدوج هو السبب في تخلّف المجتمعات العربية وفقرها وقابليتها للاستعمار تحت مجتمعات سبقتها إلى إطلاق الطاقات الكامنة في العقول والأبدان. منذ عشرة قرون تتعايش المجتمعات العربية مع التعطيل، ليس المفضي إلى الموت وإنما المفضي إلى الضمور والإنهاك والقابلية للاستعباد والاستعمار. الحمد لله يبدو أن شباب اليوم من الجنسين في العالم العربي لم يعد يجهل أسباب التخلّف الذي عليه أن يجتازه. كلهم أو أكثرهم أدرك نتائج الشلل الفكري المترتب على استبعاد العقل من فهم النص، ونتائج الشلل الجسدي لحرية الحركة والإبداع المترتب على قصور الفهم عن تدافع الحضارات. عندما تلتقي مصلحة المصاب بالرهاب الديني الفكري مع مصلحة المصاب بالرهاب الحركي الحقوقي يحدث الشلل لكافة الأطراف. ما شهده العالم العربي في العشر السنوات الأخيرة من القابلية للتلاعب بالعقول وتدمير الدول والمجتمعات كان من النتائج المتوقّعة لإحباط المشلولين عقلياً وجسدياً عبر عشرة قرون عندما فُقد التحكم العقلي بالجسد.
أسباب التفاؤل أصبحت موجودة كما يبدو من ظاهر الأحوال، ولكن يجب الاحتراز من الاستعجال في ترضية الأجيال الشابة في إطلاق سراح الأجساد بوتيرة أسرع من إطلاق سراح العقول. تلوح في الآفاق العربية كلها ظواهر شبابية ربما ما زالت محدودة الانتشار تسترخص الأخلاق والروابط العائلية والاجتماعية بمفاهيم متوهمة عن الحريات، وذلك مما يجب التحسّب له في أية انطلاقة تجديدية تأتي بعد تعطيل شبه كامل للاستعمالات الإيجابية للعقول والأبدان.