د. محمد بن عبد الله ال زلفة
في يوم الاثنين 28 يناير 2019م استقبلت الصحفي الألماني الدكتور رينر هيرمان rainer Hermann Dr محرر شئون الشرق الأوسط في جريدة Allgemein Frnffurter أثناء زيارته للمملكة لتغطية أحدث التطورات بها، وهذا الصحفي أعرفه منذ سنوات عدة حين كان محررًا لهذه الجريدة في تركيا لمدة ست عشرة سنة، ثم انتقل إلى أبو ظبي لفترة بعدها استقر به المقام في فرانكفورت المقر الرئيس للجريدة.
عودني أن يتصل بي في كل مرة يزور فيها المملكة ونتحدث في كل تطور تشهده بلادنا، وكان أول معرفتي به إبان تغطية الانتخابات البلدية الأولى ثم الثانية.
في هذه المرة زارني في مكتبي بموجب موعد مسبق وكان موعدنا الساعة الواحدة واستمر اللقاء قرابة ساعتين.
تحدثنا في مواضيع مختلفة من أهمها ما تشهده المملكة من تطورات على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأردت الحديث أن يبدأ بما يتعلق ببداية تكوين المملكة ووحدتها على يد المغفور له الملك عبد العزيز حيث يعرف أن تخصصي تاريخ المملكة.
سألني هل لا زلت تقدم دروسًا في الجامعة؟ قلت له لا، أنا منذ تركي للجامعة وانتهاء فترة عضويتي في مجلس الشورى على مدى ثلاث دورات وأنا متفرغ للبحث والتأليف في تاريخ المملكة وخاصة الجوانب التي لم تعط المساحة الكافية للكتابة عنها.
وبشكل خاص فترة حكم الملك عبد العزيز والإنجازات العظيمة التي حققها. أولها توحيد بلاد كانت مفككة تعيش ظروفًا صعبة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا.
واجه هذا المؤسس العظيم في سبيل وحدة بلاده الكثير من التحديات، ثم بعد فترة التوحيد واجه ما هو أصعب في سبيل بناء دولة تحتل مساحتها معظم جغرافية الجزيرة العربية مواردها المالية محدودة جدًا والأمية تكاد أن تتجاوز 90 % في صفوف المواطنين، والأمراض تفتك في شعب ليس فيه طبيب واحد، إضافة إلى التحديات الداخلية واجه تحديات كبرى مع قوى محيطة ببلاده.
سألني على ماذا تعتمد عليه من مصادر لإنجاز أبحاثك؟ قلت على المخزون الوثائقي الوطني الذي تغطي الجوانب التي أبحث فيها. أستغرب الرجل وقال: وهل هناك وثائق وطنية تروي ما كان يحدث؟ حيث الاعتقاد السائد بأنه لم يكن هناك وثائق ترصد لتلك الأحداث، والاعتقاد الأكثر رسوخًا أن البلاد كانت تدار بأوامر شفوية من الملك وتوصل إلى بقية أنحاء بلاده بمراسيل يوصلون أوامر الملك شفويًا إلى أمرائه وقادة جيوشه.
قلت له: لا يا سيد هيرمان هذا غير صحيح، وهذا اعتقاد لست أنت الأول الذي أسمعه منه، فلقد كان أحد أساتذتي في جامعة كمبريدج يحمل الانطباع نفسه.
قال: قل لي ما حقيقة الأمر؟ قلت: ليكون في علمك أنه كان لدى الملك عبد العزيز العديد من الكتَّاب، وكان الملك عبد العزيز يتمتع بقدرات غير عادية وسمات لا تتوفر إلا في القادة الكبار، وعبد العزيز واحد من كبار قادة القرن العشرين على مستوى العالم والأكبر بين قادة العرب ويحمل مشروعًا ضخمًا وهو توحيد بلاده، وكان دقيقًا في استثمار كل دقيقة من وقته مسخرًا كل طاقاته لإنجاز مشروعه.
كان لديه في الوقت الواحد أكثر من أربعة كتَّاب ويملي عليهم أوامره في وقت واحد، وكل كاتب يتلقى ما يملي عليه في موضوع مختلف عن الكاتب الآخر، وكان شديد الحرص على إدارة شئون بلاده بكل الوسائل، وبعث الرسائل إلى أمراء مناطقه وقادة جيشه أو إلى الولاة العثمانيين حينما كانوا لا يزالون في منطقة الأحساء أو في البصرة أو ولاية الحجاز أو حتى بعض رسائله التي يحملها مندوبوه إلى الباب العالي في استانبول أو إلى المندوبين البريطانيين المحيطين بدولته وخاصة في الخليج. كل هذا يا سيد هيرمان قبل أن تدخل بلاده سيارة أو برقية أو هاتف، هكذا كان عبد العزيز يدير دولته ويوحد بلده.
كان يعرف أن هناك مخترعات في العالم ومن أهمها البرقية والهاتف والسيارة ثم الطيارة والقطار فيما بعد، وكان حريصًا على أن يدخل هذه الوسائل إلى بلاده، ولكن ما كان يمنعه من إدخالها إلى بلاده في بداية الأمر أسباب عدة، أولها مَن يدير هذه المخترعات وبلاده تفتقر إلى كل الكفاءات بما فيها الفنية، ثم حينما رأى برؤيته الثاقبة أنه ليس هناك بُد من إدخال ما هو أضر من الضروري.
وكان في مقدمتها السيارة التي كانت الأولى منها جاءت إلى الرياض محمولة أجزاء على ظهور في مسافة تزيد عن 500 كم من ميناء العقير على الخليج العربي إلى الرياض وبرفقة بعض المهندسين والسائقين وجميعهم غير سعوديين، الذين ركَّبوا أجزاءها عند وصولها الرياض، كانت العقبة الأخرى وهي السبب الثاني استغراب سكان الرياض مواطنين وعلماء وحتى بعض أفراد أسرة الملك عبد العزيز نفسه اعترضوا على وجود هذا المخترع العجيب الذي يتحرك آليًا ويمشي على الأرض، واعتبروا هذا المخترع من أدوات السحر تحركه الجان. ولكي يثبت لقومه إنما هي ليس إلا مجرد مخترع يقرب المسافات ويحمل الناس والأثقال كان هو أول من ركب تلك السيارة أمام معارضة شديدة ممن كان يحيط به، وربما كانوا كل أهل الرياض حينما كانت عبارة عن قرية صغيرة، ولم يكن اعتراضهم على وجود السيارة فحسب بل خوفهم على الملك عبد العزيز أن لا يحدث له ما يمسه من الركوب في هذا المخترع السحري.
ركب وأخذ جولة أمام ذهول ودعاء من كان يشاهده، ثم ترجل منها وقال لهم: هل رأيتم شيئًا نقص مني؟.
الطامة الأخرى حينما أدخل البرقية لأول مرة في الرياض وهو ما كان يعول على هذا الجهاز لنقل أوامره إلى بقية أنحاء مملكته ومعرفة ما يحدث في المناطق كافة بالسرعة الممكنة، حيث ساعدته البرقية في إدارة بلاده وهو في عاصمته الرياض أو في إحدى مدن الأقاليم الأخرى، حيث سارع إلى إنشاء محطات برقية في معظم المدن الرئيسة. وكان في كل حملاته العسكرية وجولاته في بلاده يصطحب معه خبراء البرقية وهم قلة من أبناء الحجاز وخاصة من أهل المدينة المنورة يحملونها في شنطة، واصبح هؤلاء يُعرفون بأصحاب الشنطة، وكان يقدمهم على مائدته قبل غيرهم لأهمية ما يقومون به من عمل.
هذا المخترع الذي جعل قوة المعارضة له تشتد وتتأزم ليس على مستوى العامة فأمرهم ميسور وإنما على مستوى العلماء الذين رأوا أن نقل الرسائل بواسطة هذا الجهاز وعن طريق الهواء إنما هذا هو السحر بعينه، ودخل معهم في تحدٍ وجدال ومحاولات كثيرة لإقناعهم بأنه ليس إلا مخترع علمي يؤدي أغراضًا عظيمة لتسهيل التواصل.
مضى الملك عبد العزيز في طريقه ولم تثنه اعتراضات المعترضين ولكنه لم يتوقف عن محاولات الإقناع الذي ما لبث أن نجح فيه أحيانًا مع من استطاع إقناعه مع أن بعض المعترضين من العلماء خاصة كانوا ذوي تأثير على ذوي العقول الجامدة وخاصة بعض زعماء القبائل وهم عصب جيشه، إذ بلغ بهم التحريض إلى ما يشبه القيام بثورة. ولكنه كان ماهرًا في إدارة الحوار والإقناع واللجوء إلى الوسائل الأخرى إذا توقفت لغة الحوار.
وحدث هذا مع تأسيس أول شبكة هاتف تربط المنطقتين المهمتين من المملكة العاصمة الرياض بمكة المكرمة، كان الاعتراض أشد إذ كيف يمكن أن يتحدث شخص في الرياض مع شخص في مكة. من وسائل الإقناع التي اتبعها لإقناع المشككين أن طلب من شخص في مكة وكان أن يقرأ سورة من القرآن ويسمعها من كان في مجلسه ومنهم بعض العلماء الذين لديهم اقتناع راسخ أن الشيطان يهرب عند سماعه للقرآن، وكان التليفون بالنسبة لهم هو الشيطان، فسمعوا القرآن يتلى من خلال هذا الهاتف. منهم من اقتنع ومنهم من لا يزال في قلبه شك، وكذلك كان الموقف من الطيارة التي كان الملك عبد العزيز أول من ركبها في رحلة من الرياض إلى الدوادمي ومن ثم إلى جدة. هذه صفات الرجل الشجاع صاحب الرؤية يا سيد هيرمان.
وكان لبعض العلماء في الرياض اعتراض على ربط المنطقة الشرقية بالرياض بواسطة القطار، وكان ذلك في عام 1951م السنة قبل الأخيرة من وفاة هذا الملك العظيم الذي كان يسابق الزمن من أجل إدخال كل وسيلة فيها راحة وفائدة لمواطنيه، وكان الهم الذي لازمه طوال سنوات حكمه بل كان يسبب له قلقًا وخوفًا على مستقبل استمرار نجاح مشروعه هو شح الموارد الاقتصادية ومحدوديتها.
وطموحاته تعانق السماء في إدخال السعادة على قلوب شعبه وتعويضهم عن الظروف الصعبة التي عاشوها على مدى قرون من الزمن.
فحينما لاحت له أول فرصة في معرفة أن بلاده بها مخزون هائل من البترول لم يتردد لحظة في توقيع اتفاقيات مع أكبر شركات البترول في العالم لاكتشافه، وفرحته كانت غامرة حينما انبثق أول برميل من أول حقل من حقول البترول حيث ذهب بنفسه لافتتاح ذلك الحقل، ومن ثم حضور أول شحنه من البترول تصدر من ميناء رأس تنورة إلى العالم. حتى في اكتشاف هذه الثروة لم يسلم من معارضة بعض المعارضين بحجة أنه بذلك يتعامل مع غير المسلمين. هذا هو الرجل صاحب الرؤية يا سيد هيرمان.
كان صديقي الألماني ينصت مذهولاً أمام سرد هذه الوقائع التي واجهت المملكة منذ تكوينها، ثم رفع رأسه وقال: محمد أحس وكأنك تتكلم عن الأمير محمد بن سلمان ولي العهد وهو يحمل رؤية 2030م. ثم أردف قائلاً: ألا ترى كمؤرخ أن هناك صفات مشتركة بين الملك عبد العزيز ومحمد بن سلمان؟ قلت: يعجبني فيك يا سيد هيرمان حسك الصحفي اللماح.
وكنت في بداية الحديث ألمحت له عن السمات المشتركة بين الحفيد وجده وبين ظروف المرحلتين مع فارق ما بين المرحلتين.
ثم أخذنا الحديث إلى ما يقوم به الأمير محمد بن سلمان وما يخطط للمملكة من خلال رؤية ثاقبة ترسم مستقبلها السياسي والاقتصادي والاجتماعي خاصة للبحث عن مصادر أخرى للدخل وليس فقط البترول الذي اكتشف على أيدي جده.
وكذلك ما يقوم به الأمير محمد من إصلاح اقتصادي وكذلك اجتماعي وهو إصلاح غير معهود في المملكة وما يواجه من معارضة من قبل من لا يرغب في هذه الإصلاحات. قلت له إنهم قلة وورثة أصحاب العقلية القديمة التي واجهها الملك عبد العزيز وتغلب عليها لأنه كان يسبق عصره في رؤيته وحنكته وقدرته على مواجهة التحديات. والأمير محمد بن سلمان يترسم الخط نفسه لمواجهة تحديات المستقبل في زمن مختلف، فالأمير محمد ولي العهد ملتزم بمواجهة تطلعات أكثر من 70 % من أبناء وطنه من الشباب دون الثلاثين من العمر، ومجتمع اختفت الأمية فيه بما يزيد على 95 %، هؤلاء هم من ترسم لهم رؤية 2030م، وإن لم يتم الاستجابة لمطالبهم وتوقعاتهم وطموحاتهم وآمالهم في حياة كريمة ذات جودة عالية على جميع المستويات وضمان لمستقبلهم فقد نعرض كل مشروعنا الذي بدأناه منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز للمزيد من التحديات، وتحديات قد يكون من الصعب مواجهتها.
أنهيت حديثي مع هذا الصحفي المتمرس بقولي: أكتب يا سيد هيرمان في جريدتك حقيقة ما يحدث في المملكة ومن المصادر الموثوقة، ومن الملاحظة التي لا تفوت على الصحفي الموضوعي والمنصف، هل سيفعل؟ هذا ما لا أدري.
هذا بعض مما دار بيني وبين السيد هيرمان أردت أن أشرك معي القراء في بعض أو جوانب من هذا الحديث مع أن الحديث كان متشعبًا وتناول مواضيع كثيرة.