د. عبدالواحد الحميد
ذات يوم من شهر ديسمبر عام 2012 كنا -د. عبدالرحمن الشبيلي وأنا- نأخذ مقاعدنا في صالة المغادرين بمطار الملك خالد الدولي بانتظار إقلاع الطائرة التي ستُقلُّنا إلى الجوف للاشتراك في ندوة نظمها النادي الأدبي هناك عن المرحوم الدكتور عارف المسعر.
ليلة السفر إلى الجوف مع الدكتور الشبيلي، كنت أرتب أوراقي وأغوص -كالعادة- في أرشيفي القديم مستعرضاً الصور والمجلات والجرائد والقصاصات المتراكمة على مدى عشرت السنين مما قد يكون له علاقة بالرحلة، فقفَزَتْ إلى ذهني صورة النجم عبدالرحمن الشبيلي الذي كنت أقرأ عنه في الصحف عندما كنت طالباً في المدرسة المتوسطة في الجوف في منتصف الستينيات الميلادية.
كنت أقتني أعداداً كثيرة من مجلة «الجمهور الجديد» اللبنانية التي كان فريد أبو شهلا يرأس تحريرها، وكانت المجلة تهتم بأخبار المملكة وتفرد لها صفحات كثيرة، بما في ذلك بعض الأخبار المتعلقة بالتلفزيون والراديو والثقافة والفن بالمملكة، فتذكرت أنني شاهدت ذات مرة صورة للشبيلي في أحد أعدادها القديمة وتحتها تعليق عن نجم التلفزيون السعودي عبدالرحمن الشبيلي. لم يكن من الصعب العثور على المجلة، فهي ضمن مجموعة من المجلات الأثيرة عندي لارتباطها بمرحلة من العمر وبمكان وزمان وظروف ذات خصوصية وعمق وأثر في نفسي. وعندما تصفحت بعض أعداد المجلة عثرت في العدد 636 الصادر بتاريخ 25 آب (أغسطس) 1966م على موضوع منشور في الصفحة التاسعة والعشرين بعنوان «نجوم التلفزيون» جاء فيه تعريف بعبدالرحمن الشبيلي على النحو التالي: «عبدالرحمن الشبيلي مدير برامج تلفزيون الرياض -يبلغ من العمر 24 سنة- يحمل شهادة الليسانس من كلية اللغة العربية وشهادة البكالوريوس من قسم الجغرافيا بجامعة الرياض -انضم إلى أسرة الإذاعة والتلفزيون قبل ثلاث سنوات- عمل أولاً مذيعاً في إذاعة جدة ثم انتقل إلى إذاعة الرياض حيث عمل مساعداً لمراقب عام البرامج إضافة إلى قيامه بعمله كمذيع، وقبل عام تقريباً انتقل إلى التلفزيون حيث يعمل الآن كمدير برامج إلى جانب تقديمه لبعض البرامج والنشرات الإخبارية في الإذاعة والتلفزيون.. من برامجه التي يقدمها في التلفزيون برنامج حديث الأصدقاء وبرنامج الأخبار في أسبوع».
صوَّرت الصفحة التي تتضمن الخبر، وفي صالة المغادرين بالمطار قدمتها للدكتور الشبيلي ورحنا نتحدث طويلاً وغصنا في ذكريات الماضي عن أحداث وشخصيات طواها الزمن، وعندما انتبهنا كانت الطائرة قد أقلعت وتركتنا نتحدث في صالة المغادرين.
تذكرت تلك الواقعة حين كنت أتصفح كتاب السيرة الذاتية للدكتور الشبيلي الذي صدر مؤخراً بعنوان: «مشيناها... حكايات ذات». فالشبيلي النجم التلفزيوني الذي كانت الصحف تتناقل أخبار نشاطاته وبرامجه هو من ظلت صورته عالقة في خيال فتى من الجوف يعشق القراءة ولا يعرف عن التلفزيون إلا اسمه لأن التغطية التلفزيونية لم تكن قد شملت الجوف في ذلك الزمان. هذه النجومية التي ربما غبط كثيرون الشبيلي عليها هي التي تحدث عن معاناته معها في الصفحة 151 والصفحة 163 وصفحات أخرى من كتابه الشيق الذي روى فيه رحلته عبر دروب الحياة منذ ولادته في مدينة عنيزة.
يقول الشبيلي: «دام الارتباط مع الإذاعة والتلفزيون نحو أربعة عشر عاماً، كانت على ما فيها من أضواء وشهرة، تمثل حياة شاب عاش منبهراً بالحظوة والاقتراب من دروب الساسة ودهاليز المسؤولين، فبين عشية وضحاها أصبح معروفاً من بعض شرائح المجتمع وانغمس مخدوعاً بـ»النجومية» الزائفة في عيون من عرفه، منذ انتقل وزملاؤه الفنيون من بيئاتهم المحدودة (...) لينصهروا في مجتمع متآلف متنوع الفئات من كل أنحاء البلاد، وليقود الفتى القادم من القصيم برامج تلفزيون الرياض دون سابق معرفة به».. ثم يقول: «يشعر البعض من استقراء نماذج معينة، ومن خلال استعراض الآثار النفسية السلبية لتلك المظاهر على المتمتع بـ»النجومية» المضللة، بأن ضررها المحتمل على المستقبل يكمن في جوانب حياتية، منها تعطيل تقدم نجاحاته العلمية والثقافية فيما لو انساق وراءها وهو لم يكمل تحصيله العلمي واكتفى بما تضيفه على شخصه من تمجيد وتخدير».
بالطبع لم يتخدر الدكتور الشبيلي ولم يتوقف عن التحصيل العلمي عند درجة الليسانس والبكالوريوس وإنما واصل مشواره التعليمي حتى نهايته. ولم تكن مقاومة إغراء النجومية أمراً سهلاً، فقد كان عليه أن يتخلى عن أشياء كثيرة مما توفره النجومية للنجم فغادر الوطن إلى الولايات المتحدة لدراسة الإعلام بشكل منهجي حتى حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الإعلام. لكن الشبيلي الذي أحب الإعلام من خلال الممارسة الفعلية في المملكة قبل البعثة وعلمياً بعد التخصص الأكاديمي في أمريكا عاد مجدداً إلى حقل الإعلام الأثير إلى نفسه متسلحاً بما تعلمه في البعثة وبما شاهده من تجارب إعلامية في الولايات المتحدة.
يروي الشبيلي في «مشيناها» بأسلوبه المميز الجاذب تفاصيل تتجاوز كثيراً في أهميتها وإدهاشها جانب النجومية الفردية التي هي «مفتاح» معرفة الكثير من الناس للشبيلي وبخاصة الأجيال التي عايشت الفترة التي كان يطل خلالها من الشاشة في زمنٍ كان التلفزيون السعودي هو القناة التلفزيونية الوحيدة المتاحة. يحكي الشبيلي قصة الخطوات الأولى لإنشاء التلفزيون السعودي وجهود رجال مخلصين مثل جميل الحجيلان في حماية التجربة عندما كانت في مهدها، وكيف مضت التجربة صعوداً وهبوطاً بين مدٍ وجزر وماذا كان يدور في كواليس التلفزيون ووزارة الإعلام من قصصٍ عايشها بحلوها ومرها وتناقضاتٍ وإشاعات وتقاطعات ومصالح يغطيها ويطغى عليها تعاونُ مجموعة من الإعلاميين والفنيين الشباب من مختلف مناطق المملكة لتقديم أقصى ما يمكنهم تقديمه في ظل مثبطات اجتماعية وفنية ورقابية. ولكن في النهاية يقرر الشبيلي أن يغادر التلفزيون ووزارة الإعلام بعد سلسلة من المواقف، ويصف مغادرته قائلاً: «خرج (الشبيلي) من سنوات العمل في وزارة الإعلام صفر اليدين، من سيارة تنقلاته التي تمتلكها الوزارة، فأكرمه أحد معارفه بتوفير سيارة دوج من وكالتها في شارع الأحساء بتقسيط مريح». أما عن الإعلام فيقول الشبيلي:» إن كاتب هذه الخواطر يجدد التأكيد على أنه لم يشعر في سنة من السنوات بالرضا عن مضمونه ومستواه، مقتنعاً بأن دولة في مكانة المملكة وصدارتها وموقعها، قمينة بإعلام داخلي وخارجي أفضل وبحياة فكرية أرقى، لم يتسن لهما الظهور». وعن الإعلام السعودي الخارجي تحديداً، يرصد الشبيلي ظاهرة الصحف والقنوات السعودية المهاجرة المدعومة بمال القطاع الخاص ويرى أن نجاحاتها المهنية تتغذى على «إخفاقات الإعلام الرسمي، ولا يوجد اليوم سبب وجيه يُبقي الإعلام المهاجر الناجح خارج الحدود، بينما البلاد في مسيس الحاجة إليه. إنها تكاد تكون الحالة الوحيدة في العالم التي يوجد فيها إعلام مهاجر مؤثر وإعلام رسمي داخلي لا يقوى على التأثير باعتراف حكومي صارت بموجبه البيانات المهمة والمقابلات تُخَص بها القنوات المهاجرة».
ومن وزارة الإعلام إلى وزارة التعليم العالي ثم إلى مجلس الشورى امتدت رحلته تحت مظلة العمل الحكومي وشبه الحكومي، ثم جاءت المرحلة التي أعقبت انتهاء عضويته في مجلس الشورى لثلاث دورات متتالية فكانت من أجمل مراحل العمر، وبخاصة تفرغه شبه التام للتأليف وإلقاء المحاضرات والمشاركة في الأعمال التطوعية من خلال بعض الهيئات والجمعيات والمؤسسات.
ولعل من أمتع ما يطالعه قاري «مشيناها» ذلك الوصف الذي يقدمه المؤلف لبيئات العمل المختلفة التي عمل فيها، فهو يفصح عن معلومات جديدة لا يعرفها القارئ عن بعض المشاهير وعن أساليبهم في العمل والإدارة والتحولات المفاجئة التي تحدث في بيئات العمل فتقلب الموازين وتعيد ترتيب الأوراق بشكل غير متوقع.
غير أن ما يمس قلب القارئ حقاً هو حديث الشبيلي عن والدته وعن ابنه طلال. فبعد الوصف الأخاذ لبيئة عنيزة وحاراتها وأسواقها ورجالاتها يتحدث بشفافية تنفذ إلى شغاف القلب عن الفتاة الغريبة التي جاءت من أقصى الدنيا لتجد نفسها في عنيزة بعد رحلة طويلة قادتها من مدينتها إسطنبول مروراً بالقريات حتى عنيزة. لم تكن تلك الفتاة سوى «فاطمة» والدة عبدالرحمن الشبيلي التي تزوجت في القصيم وذابت في مجتمع عنيزة حتى صارت مثل أيّ امرأة قصيمية الأصل والمنشأ والولادة، فكانت تتحدث بلهجة قصيمية خالصة وتصنع الأكلات والحلويات المحلية وتتعامل مع التمور وتعرف أنواعها بالرغم من أنها «كانت في الأصل نازحة من تركيا إثر الحرب العالمية الأولى أو حرب الأتراك والأرمن وقَدِمَت إلى الجزيرة مع عددٍ من بنات جنسها». يقول الشبيلي:» بعد أن وضعت الحرب أوزارها، لم يكن لدى بعضهن من المعلومات ما يكفي للاستدلال على أسرهن بسبب صغر السن»، ويضيف: «كان الأشقاء الثمانية (أبناء وبنات السيدة فاطمة فيما بعد) يتمنون الحصول من ذاكرة الوالدة على طرف الخيط الموصل إلى أخوالهم وخالاتهم من أهلها، من أجل الاعتزاز بهم علناً أمام المجتمع، وكثيراً ما كانوا يجثمون أمام ركبتيها لاستنباط مفردة أو معلومة مفيدة يمكن أن تكمل كلماتها المتقاطعة وتقود إلى معرفة منشئها الكريم الذي وفدت منه ويغبطون غيرهم الذين يحصلون على مبتغاهم المماثل».
أما طلال، الابن الوحيد الذي رحل مبكراً في سن الرابعة والأربعين فقد كانت قصة رحيله التي سجلها المؤلف عبر التنقل بين مستشفيات المملكة والولايات المتحدة وفرنسا مؤلمة أشد الألم ولكنها مليئة بالعبر وبخاصة شجاعة طلال -رحمه الله- في مواجهة المرض على مدى ستة عشر عاماً وصبر زوجته واحتسابها والتفاف الأسرة والأصدقاء ووقوفهم إلى جانب والديه وزوجته. يقول أبو طلال: «ظلت تجربة الحزن الصامت منذ وفاته جرحاً بالغ الغور في حياة أسرته، ودموعاً تذرفها عند ذكره وأمام صوره وعند زيارة قبره (...) ومنذ أن قدَّر الله على العائلة فَقْدَ عزيزها طلال قبل خمسة أعوام، تغيرت أشياء كثيرة في حياة والده، بالنظرة إلى الأمور من حوله بواقعية أعمق، صار فيها يميز التوافه منها ويرى الأخرى بحجمها الطبيعي، فالدنيا أصغر من أن تُشغَل بالتّرهات، والوقت أثمن من أن يضيع سدىً، يستصغر ما يراه من منافسات وحزازات في المناصب ومن اهتمام الناس ومبالغتهم بالمظاهر والماديات».
«مشيناها» سيرة ثرية وزاخرة بالمواقف والأحداث لرجلٍ تردد كثيراً في وضعها في كتاب قائلاً في مقدمة كتابه -بكل تواضع- إنه «ظل يقف موقف المتحفظ أمام دعوات الحديث عن ذكرياته فضلاً عن تدوينها لعدم اقتناعه بالمبدأ من ناحية، وليقينه بأن بضاعته في هذه الحياة متواضعة ليس في استحضارها قيمة تؤهل للرواية، وهي لا تقارن بتجارب كبار، ولا تتماهى مع تراجم مبدعين». هذا الرجل هو مَنْ كتب خمساً وخمسين كتاباً ومحاضرة مطبوعة في الإعلام والسيرة ومختلف الجوانب الثقافية وحاز على جائزة الأمير (الملك) سلمان لخدمة التاريخ الشفهي وتوثيقه وجائزة الأمير (الملك) سلمان التقديرية للتميز في دراسات تاريخ الجزيرة العربية، ثم توَّج مسيرته بالحصول على وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى تقديراً لإسهاماته في مجال الفكر والثقافة، وهو المؤلف وأستاذ الجامعة ووكيل الوزارة وعضو مجلس الشورى ورجل المجتمع الذي يرتاد مجلسَه كل أسبوع عشراتُ المثقفين والمسؤولين وأعيان المجتمع.
في مكانٍ ما من الكتاب يلخص الدكتور عبدالرحمن الشبيلي مسيرته الوظيفية والعلمية والثقافية بقوله: «لقد عثر وهو في أوائل العشرين من العمر على خارطة المستقبل مع الإعلام، ووجد في التعليم العالي وهو في بحر الثلاثين أفقاً واسعاً في المعارف والبحوث، وتعلم تحت قبة الشورى وهو في أواسط الخمسين أدب الاختلاف في الرأي واحترامه، ثم اكتشف في النشاط الثقافي بعد تقاعده الملاذ الفكري الشيق والآمن».
في «مشيناها»، يقدم الشبيلي لكتابه ببيت من الشعر (مشيناها خُطى كُتبت علينا ... ومَنْ كُتِبت عليه خطى مشاها)، ثم يمشي بنا سطراً سطراً في رحلة ماتعة لا يمل القار من متابعتها رغم صفحاتها التي بلغت أربعمائة وأربعاً وسبعين صفحة، وهو -بذلك- يضيف لبنة جديدة في «أدب السيرة الذاتية» المحلية.