م. بدر بن ناصر الحمدان
في صباح يوم سبت بارد وممطر من شتاء 2030م، استقللت قطار الرياض عبر المسار الأزرق في طريقي من المنزل إلى وسط المدينة لقضاء بعض من الوقت كعادتي في نهاية كل أسبوع بعد أيام عمل مثقلة، محطة الذهاب مزدحمة بالناس، أطفال ونساء ورجال، محليون وزائرون وعابرون، كل له وجهته، أشبه بيوم نفير، صدى الإعلان عن الرحلات المغادرة يملأ المكان، ركبت العربة وبالكاد وجدت مساحة على الأرض أقف عليها بقدميَّ.
تشبثت بذلك المقبض المعدني لحفظ توازني، ولالتقاط أنفاسي، انطلقنا بسرعة البرق، صوت القطار القادم من الخارج أشبه بسلم موسيقي، مزيج سماعي بين صدى دخوله لنفق وخروجه منه، تفصله مقاطع صامتة عند عبوره مساراً آخر، أو توقفه عند محطة وانطلاقته منها، سيمفونية تعوّدت عليها، لم أعد بحاجة لسماع أسماء تلك المحطات أو مشاهدة شاشة عرضها عند الوصول، أصبح لدي الخبرة الكافية مع مرور الزمن لأعرف أين أنا من نغمة صدى الأماكن التي يمر بها القطار.
يقف بجانبي رجل يبدو من ملامحه وقبعة الخوص المجدول التي يرتديها وسيجارته الكوبية أنه قادم من خليج المكسيك، يتمتم بلحن داخلي، أقرب ما يكون لمقدمة أفلام رعاة البقر، في الجوار شاب وفتاة يتبادلان حديثاً رومنسياً من فحواه خُيِّل لي أنهما عريسان قدما لقضاء شهر العسل في العاصمة الرياض، في الجانب الآخر من العربة مرشدة سعودية تساعد مجموعة من السائحين الأوربيين حول وجهتهم القادمة، يجلس أمامي رجل يمسك بكتاب دوّن على غلافه عبارة تقول «يوماً ما سنلتقي صُدفة أنتَ تَعرفني وأنا لا أتذكَّرك».
توقف القطار، ونزلت في المحطة القريبة من الجادة الرئيسة بوسط الرياض وانطلقنا إلى ذلك الفضاء العمراني وكأننا أسراب من الطيور للتو خرجت من أقفاصها، هنا المكان الأكثر ازدحاماً على مستوى المدينة، كل ركن منه يعج بالناس القادمين من كل بلاد الأرض، المقاهي والمطاعم والمراكز التجارية والثقافية والمسارح ودور السينما ومعارض الفنون وممرات المشي والساحات والفعاليات المفتوحة والفنادق حولت المكان إلى وجهة سياحية راقية، لقد عادت الحياة إليه بعد أن هجره سكانه لسنوات.
توجهت إلى مقهىً إيطالي صغير، تديره امرأة إيطالية اسمها «تيريسا» أسسته على غرار «انتيكو كافيه» في روما كملاذ للمثقفين والفنانين والمفكرين، المرايا واللوحات الرومنسية والرخام والخشب المطلي بالذهب على جدران المقهى تمنحه سحر وجاذبية لا تقاوم، تشعر بأنك في حقبة الستينات وبجانبك «إتالوكالفينو» و»ماريا غايتانا»، تقول «تيريسا» إن استثمارها في هذا المقهى كان أهم قرار في حياتها وإن السياح الإيطاليين يقصدون قهوتها في كل مرة يأتون فيها إلى السعودية، «أنا لا أفتقد أحداً هنا»، قالتها وهي تنظر إلى جموع الناس بعينيها الغارقتين بكل معاني الحياة.
على أنغام «كوتونيو» في معزوفته الشهيرة (دعوني أغني.. والقيثارة بيدي) تناولت فنجال القهوة الإيطالية في كنف مقهى السيدة «تيريسا»، وانطلقت بعدها للتجول بين ردهات تلك الجادة العملاقة، توقفت لأشاهد عرضاً مسرحياً مفتوحاً لفرقة الأوركسترا المكسيكية، ولم يفاجئني أن قائدها هو الشخص الذي كان يقف بجانبي في القطار صباح هذا اليوم، نظر إلي بطرف عين وتبادلنا الابتسامة وكأن لقاءنا جزءٌ من تلك الجوقة السمفونية التي يقودها.
بحلول المساء، كنت على موعد مع عدد من الأصدقاء في نهاية جادة وسط المدينة لقضاء ما تبقى من الوقت في مطعم تقليدي يُسمى (الغبوق) وهو محل عريق يقدِّم حليب النوق من الإبل بأسلوب شعبي متطوِّر وسط أجواء صحراوية في غاية الجمال، وما يجعل منه نقطة جذب للسياح أنه يمكّنهم من عيش تجربة إنسان البادية بكل تفاصيلها في مشهد درامي بغاية الجمال.
هؤلاء الناس القادمون من كل الأنحاء جاءوا لعيش التجربة السياحية السعودية بكل تفاصيلها والاستثمار فيها، ثمة نهم كبير لاكتشاف حضارتنا، وعيش حضارتهم، الاندماج مع شعوب العالم أصبح سمة رئيسة لنمط العيش في العاصمة الرياض التي استطاعت أن تقدِّم السياحة كثقافة واقتصاد وتنمية وعمران وأسلوب حياة.
في نهاية ذلك اليوم الطويل والمفعم عدت أدراجي مع آخر رحلة للقطار، تؤرِّقني ذاكرة المكان، أنوار الشوارع المتسلِّلة من نوافذه ترسم لوحة تجريدية على الوجوه المختلفة في موطنها وأعراقها، المتفقة في ثقافتها وتعايشها مع الآخر، كانت رحلة جميلة عبر حاجز الزمن، أنا واثق أنني سأكون هناك مرة أخرى عندما يأتي ذلك اليوم، قهوة «تيريسا» حتماً ستكون في انتظاري.