د.محمد بن عبدالرحمن البشر
ابن الخطيب ألف كُتباً، وأرسل خطابات وقصائد للقادة وللأصدقاء كما أنشد قصائد في المدائح النبوية أثناء مكوثه في مدينة سلا بالمغرب، والحقيقة أنه أيضاً قد حفظ لنا من خلالها شيئاً من التاريخ والتسميات للأماكن، ولن نبحر في ذلك، لكن يمكن الإشارة إلى ما ورد في إحدى قصائده في مناسبة دينية.
وحيَّ بوادي الغيط داراً مزورة
توالى الحراك الندى وتدينه
وبهذا فقد أضاف إلينا اسماً لنهر أبي رقراق كان سائداً قبل تسميته الحالية، وهذا الاسم ينطبق مع ما أورده أيضاً في كتابه أعمال الإعلام، لكن الإدريسي قد أورد اسماً آخر لهذه النهر فسماه أسمير، ومعناه الكبش بالبربرية، ربما لأنه كثيراً من الكباش كانت تربى حول هذا النهر في سالف الدهور، وما زال الأمر كذلك، وهذا أيضاً يسمى وادي الرمان، وأياً كان الأمر فإن نهر أبي رقراق تسميته جديدة فيما يبدو.
وعقب الإياب من رحلته المراكشية التي زار فيها مراكش، وعدداً من المدن والقرى في ذهابه وإيابه، واستمتع بجمال الطبيعة، وبهاء المنظر، وطيب المعشر، مع من لقيهم من بادية وحضر، ونال من النوال ما شاء الله له أن ينال، لكنه فيما يبدو راضياً جزئياً بشيء مما حصل عليه، فقد سدد به دينه، وأصلح بعض حاله، وفي هذا يقول:
أفادت وجهتي بنداك مالا
قضى ديني وأصلح بعض حالي
ومتعت الخواطر بانشراح
وأطرفت النواظر باكتمال
وتمتع خاطره، كان بالمسامرة مع كبار القوم الذين لقيهم في رحلته، ومؤانستهم له، وأنواع الموائد التي قدمت له، والتي وصفها لنا، وهي تشابه، ما هو موجود من الموائد المغربية في وقتنا الحاضر، فالأطباق وطريقة التحضير، والمواد المستخدمة مما هو متاح في ذلك العصر، لا يختلف كثيراً عما هو موجود الآن، إلاّ أن بعض الخضروات لم تكن متاحة أو معروفة على مستوى العالم مثل الطماطم التي كانت تستخدم زهرة زينة لدى الهنود الحمر في أمريكا مرتعها الأصلي، ثم استساغها البعض بعد أن تدفق إليها المهاجرون فأصبحت عنصراً هاماً لا يستغنى عنه في معظم الأطباق العالمية.
أما تطريف ناطريه واكتحالها بما هو جميل، فهو فيما يبدو، يشير إلى جمال الطبيعة من جبال ووديان، وزهور وريحان، والمياه التي تنساب، وكأنها باقات لؤلؤ تسير الهوينى تبحث عن جميلة تطوق بها عنقها، ولا شك أنه قابل في مسيرته تلك حرائر وجواري، ازدانت بها تلك الأماكن الخلابة، لتظهر كزهور بشرية فوق تراب صقلته الدهور، وساد عليه مختال فخور، ومتواضع كيّس صبور، فأصبح أديم تلك الأرض خليطًا من الأجساد البشرية، المتماثلة والمتناقضة في منهجها وسلوكيها.
وقد بالغ في مدح السلطان في بعض أبيات قصديته تلك، حتى جاوز الحد وبدرجة لا تتناسب مع تعاليم ديننا الحنيف، فكان من الأولى عدم إيرادها لكنه في نهاية القصيدة سطر أبياتاً رائعة تحمل من الحكمة والمعاني الرائعة الشيء الكثير، بل إن كل بيت منها حكمة خالصة بذاته، فيقول:
وما يبقى سوى فعل جميل
وحال الدهر لا تبقى بحال
وكل بداية فإلى انتهاء
وكل إقامة فإلى ارتحال
ومن سام الزمان دوام أمر
فقد وقف الرجاء على المحال
حقاً، لا يبقى سوى الفعل الجميل، في قلوب الأحياء، وعلى ألسنة الناس بعد الوفاة وموعد اللقاء، وما يسطره التاريخ ويحفظه العلماء، ولا شك أن الدهر لا يبقى على حال، وأن لكل بداية نهاية، والجميع راحلون، ويبقى الفعل الجميل، في قلوب الناس، ثروة هائلة عند انتهاء رحلة العمر، ولا شك أن من طلب من الزمان دوام أمر، فإنما هو طالب للمحال، والدنيا إلى زوال.
ويلاحظ من خلال رسائله وقصائده وكتبه، وحتى الأبيات السابقة وغيرها، تدل على أن شيء من الاكتئاب ينتابه بين فنيةٍ وأخرى، ولا غرو في ذلك، فقد فارق وطنه، وعاش في المنفى، وفقد ماله، ومرتع صباه، وموطنه ومواطن أجداده، محل ذكرياته وأفراحه وأتراحه، والجداول الغناء التي تنعم بها الأندلس، التي قضى فيها جُّل عمره، ماعدا سنتين، ومن واقع سيرته أنه ليس صاحب جلسات أنس وطرب، ونساء وصخب، وإنما كان يلم بها لماماً لمجاملة مسؤول أو صديق، لكنها ليست في ذاته مغروسة، ولا شك أنه لولا الله ثم رعاية السلطان المريني المغربي له، لكانت حالته المالية، ومقامه الاجتماعي أقل بكثير مما حاز عليه أثناء مكوثه في مدينة سلا المغربية. يبدو أنه حامل للحقد على الأخوين إسماعيل وقيس اللذين أخذا غرناطة من أخيهم الغني بالله الذي كان ابن الخطيب وزيراً له، ومن ثم تم قتلهما على يد زوج أختهما، وقد ألمح ولم يصرح، وراوى بيتين كأنه يشير فيها إلى دواء اسمه الأخوين، وهو يومئ إلى إسماعيل وقيس، فيقول:
بإسماعيل ثم أخيه قيس
تأذن ليل همي بانبلاج
دم الأخوين داوى جرح قلبي
وعالجني وحسبك من علاج
هكذا كان زمانه، وإن اختلف مقامه ومكانه.