بمناسبة صدور العدد رقم «600» من «مجلة الجزيرة الثقافية» بعد نحو ستة عشر عامًا من الإبداع والتألُّق على الساحة الثقافية والأدبية يطيب لي أن أتقدم بأخلص التهاني وأطيب الأماني لأسرة تحريرها وفي مقدمتهم مدير تحريرها الأديب د. إبراهيم التركي الذين حملوا على عاتقهم تحمُّل مسؤولية إصدارها.. واستمراريَّتها.. وتجديدها وتنوّع موادّها الثقافية والأدبية، في إنكار للذَّات وتعاون فريد من أجل تقديم ثقافة راقية ومتميزة، ونشر لـ «روائع الأقلام» عربيًّا وعالميًّا، وإتحافنا بكل ما يحمل بين طَيَّاتِه روح الشرق، وشموخ العروبة، وأصالة الماضي، وعراقة التراث، وكل ما يفتح نوافذنا على آفاق أوسع وأرْحَب وأشمَل وأكثر تنوُّعًا. وجاء يوم ميلاد «مجلة الجزيرة الثقافية» موعدًا عبقريًّا رائعًا، بعد أن أقْفَرَت الساحة الثقافية العربية من المجلات الثقافية المتخصِّصة والرصينة، اللهم إلَّا صحيفة «أخبار الأدب» التي صدرت منتصف عام 1993م برئاسة تحرير الأديب الراحل جمال الغيطاني. وقد فتحت «جزيرتنا الثقافية» الأبواب لإبداع شبابنا الواعد، فجدَّدت الآمال في غدٍ مشرق للأدب المتجدِّد المستنير، والرؤية المستقبلية الواعدة، والثقافة العربية الأصيلة.
هكذا جاء بزوغ فجر «مجلة الجزيرة الثقافية» «صادقًا» ساطعًا متألِّقًا، فاستطاعت أن تربط بذكاء ووعي بين ثقافة الشرق والغرب، وبين الأصالة والمُعاصَرة، فأصبحت صفحاتها منبرًا لتلاقي وتلاقح الأفكار والعقول، فكانت أشبه بـ«بستانٍ بَهيج» يجمع كل ألوان الطيف ومختلف الأذواق والمشارب، في إطار من الثقافة الرفيعة. وإذا كان هناك ارتباط وثيق بين الأدب والصحافة بما بينهما من وشائج وقُرْبَى، فإن «مجلة الجزيرة الثقافية» قد قطعت شوطًا كبيرًا في مجال النقد الأدبي، بجانب الإبداع الشِّعْري، والفَنّ القَصَصي، والترجمة الأدبية، فضلًا عن التعريف بأشهر التيَّارات النقدية وأهم الاتجاهات الثقافية في العالَم، الأمر الذي أثرى المَشْهَد الثقافي. ولا شك أن الصِّحافة الثقافية المتخصِّصة لها دور عظيم في النهضة الفكرية والحضارية، ولها إسهام فعَّال في تنمية الوعي الثقافي عند جمهور القُرَّاء، كما أن لها دورًا كبيرًا في إشباع نَهَم القارئ الذي ينتظر صدورها بشَغَف ولَهْفَة، ولا ننسى أن هناك كثيرًا من الأدباء العرب قد دَبَّجوا مقالاتهم في «الصحافة الثقافية» أولًا، ثم جمعوها ونشروها في كُتُب مستقلَّة، فقد كانت الصحافة الثقافية دائمًا ساحة للأقلام الأدبية من شتَّى الأقطار العربية، ومنتدى للحوار الثقافي، ونافذة على الفكر العالمي بتيَّاراته واتجاهاته ورموزه، وكانت «مجلة الجزيرة الثقافية» خير نموذج لذلك.
وإذا كانت «مجلة الجزيرة الثقافية» قد وُلِدَت وخَرَجت من الظُّلُمات إلى النُّور قبل ستة عشر عامًا، فإن ما قَدَّمَتْه وتُقَدِّمه من أدب وفكر وثقافة يُحْسَب بمدى تأثيرها في الأجيال الجديدة من معارف وأفكار وثقافات، كما أن «مجلة الجزيرة الثقافية» أسهمت في تقديم العديد من المثقفين والمبدعين السعوديين «المَنْسيِّين» فأخرجتهم من زوايا النسيان وشجَّعتهم على نشر أعمالهم على صفحاتها، وقد حرصت في سيرتها ومَسِيرتها الثقافية على أن تَحْفَل بالأدب الرَّصين والثقافة الرفيعة المتنوعة التي تأخذ من ثقافة «الآخر» ما يلائم ثقافتنا العربية والإسلامية وقِيَمنا الأصيلة، فشَهِدَتْ صفحاتها حوارات «قلميَّة» حضارية خَلَّاقة، وتمازج بين الثقافات العربية والعالمية، ومحاولة التقريب بين جيل الشيوخ وأجيال الشباب، في «بانوراما» ثقافية رائعة وبديعة تُبهج النفس، وتسُرّ العين، وتَشْرح الصدر.
وإن كنا لا نستطيع الفصل بين الثقافة والصِّحافة؛ لأن رسالتهما واحدة وتأثيرهما مشترك في القارئ المثقف المتذوِّق الذي يَعُدّ الصحيفة المتخصِّصة هي إطلالته الرحيبة والخَصيبة على ثقافات العالَم، فإن «مجلة الجزيرة الثقافية» قد استطاعت أن تقوم بهذا الدور التثقيفي الكبير، لإثراء الوعي، وزيادة المعرفة، وتنوّعها عند القارئ المتعطِّش، لينهل من مختلف الثقافات ويتفاعل معها، وبهذا نستطيع أن ننشِئَ أجيالًا تتزود بنور المعرفة والثقافة، والأدب الرفيع، من نبعٍ عَذْبٍ، ومَوردٍ زاخرٍ بكل جميل.
تحيَّةٌ عَطِرة لـ«مجلة الجزيرة الثقافية» في عرسها الثقافي الزاهي.
** **
- محمد بن سعود الحَمَد