عند الحديث عن الثقافة في العالم العربي، يجب أن نستدعي الحقيقة الجلية المؤلمة وهي أن الهوة بين العمل الثقافي وشواهده وشخوصه وبين الإنسان العربي ما زالت كبيرة جداً، ووسائل التواصل الاجتماعي بغثها وسمينها، زادت من هذه الفجوة، وهذا ما جعل مشاريعنا الثقافية نخبوية محضة إنتاجًا واستهلاكًا، ومازالت الثقافة ووسائلها التقليدية الخالصة غير قادرة على التماهي والانسجام مع الأفراد والمجتمعات.
في عام 2003 كانت انطلاقة الجزيرة الثقافية، لا أعرف التفاصيل التي أحاطت بهذا المشروع منذ أن كان فكرة حتى أصبح شاهد عيان على مرحلة مهمة من حراكنا الثقافي.
بالنسبة لي الصدفة وحدها قادتني للجزيرة الثقافية، الغريب أنني دخلتها كاتبًا قبل أن ألم كثيرًا بتفاصيلها ورموزها، ففي زحام المقروء والمعروض من المعارف كانت الجزيرة الثقافية بالنسبة لي عالمًا غامضًا وربما حلمًا، لم يتسن لي معرفته.
نُشر مقالي الأول بعد رحلة عناء وبحث عن من ينشره، وكنت حريصًا على رؤيته باكرًا على صفحات المجلة، بالفعل صورتي وعنواني يتصدران الصفحة الورقية، كان هذا المقال مثار شد وجذب بين مجموعة من القراء، فقد نال أعلى رقم في التعليقات بين مؤيد ومعارض، وصل بعضها إلى حد وصمي بالتخلف والرجعية!
بعد المقال وردة الأفعال الصاخبه، أخذت أتصفح صفحات ذلك العدد، ووجدت أن المجلة كنز معرفي وثقافي، (الغذامي) يحضر من خلال توريقاته المختصرة والمركزة، وعراب الحرف (إبراهيم التركي)، يمارس عزفه المنفرد وتقاسيمه الكتابية بعد إن يختار شخصية ثقافية يكتب عنها ولها، أذهلني أسلوب التركي الكتابي ورأيت فيه بعدًا إبداعيًا لم أره من قبل، كان أسلوبه وما زال مثار حفاوة المتلقين الذين يؤمنون بالكلمة المموسقة المؤصلة بالتراث وأصالته، والحديث بكل جده وجديده.
على الناحية الأخرى من ضفاف الجزيرة الثقافية تسكن القيثارة (زكية العتيبي)، تمارس حضورًا كتابيًا موجزًا غنيًا كالمطر في هطوله ونفعه وانشراح النفوس لأثره وتأثيره، في مذكراتها، شيء غريب، فما أن تقرأها حتى تهم بخلق نهاية تتم معنى رسخ في ذائقتك الجمالية، أسلوب زكية العتيبي وهطولها المستمر يجعل حضورها مغنمًا قبل أن يكون مطلبًا، كيف لا وهي تعيد دوزنة الكلمات وبعثها إلى القارئ في صور إبداعية ترسخ في الذاكرة وتتشكل من جديد.
كثيرون هم كتاب الجزيرة الثقافية، ولعل قادم المناسبات يسمح باستدعاء كثير من تجلياتهم وأساليبهم الإبداعية الجميلة.
الجزيرة الثقافية ليست مجرد إصدار ثقافي لابد من حضوره الأسبوعي لتغطية عجز في المطبوعات الثقافية، وليست مجرد مشروع يراد له مزاحمة الآخرين أو مناكفتهم، هي مشروع ملتزم بكل أدبيات الحوار وإرهاصاته ونتائجه، هي نسق مختلف من التجلي والحضور، فسقف الحرية مرتفع جدًا، والتنوع يظل سمة بارزة تؤطر حضورها وحضور كتابها.
مجتمعنا السعودي مجتمع قارئ يبحث عن المعرفة وصورها وضروبها المختلفة، إلا أن مبادراتنا الثقافية سواء كانت لأفراد أو منظمات ما زالت غير قادرة على التفاعل مع الإنسان ومتطلباته المختلفة.
المجلة الثقافية وهي تصل إلى الرقم ستمائة في مسلسل حضورها المستمر تؤكد أنها مشروع عمل تجاوز الصدفة والفزعة، فكتابها وموضوعاتها وطرائق عرضها تثبت أنها رقم صعب في حراكنا المحلي، وأن مسيرتها القصيرة نسبيًا تجعل من حضورها أهم منعطف في شواهدنا الثقافية في العشرين سنة الماضية.
شكرًا للثقافية والعاملين عليها على هذا الألق وديمومة التواصل على أسس من الرصانة والمهنية والاحترافية، كل ذلك يجير للكلمة الصادقة والموضوع الهادف والكاتب الرصين، وقبل ذلك الطموح الكبير الذي يبدأ حلمًا ثم فكرة وخارطة طريق تصل بالثقافة وأهلها إلى مرافئها الدافئة المثمرة والمستقرة.
** **
- علي المطوع