كأنما هناك لحظات توقف إجبارية للتأمل أو لإعادة النظر، ففي حين يمكن تجاهل ظواهر التجديد وطفرات التغيير إلى حين، فإن هنالك دوماً محرضات للاستجابة المفاجئة تتمثل في حدثٍ طارئ أو نقطة وصول مميزة تقود إلى اتخاذ قرارات أو مواقف كانت مستبعدة.
تصل الثقافية إلى عتبة رقمية تستثير التفكير، وهو أمرٌ ينسحب على حالاتٍ مماثلة، فقد جرت في العقد الماضي، على الأقل، مياه تقنيةْ كثيرة غيّرت من مجاري الأنهار والجداول الثقافية بعامة وقلبت الطاولات على موائد تقليدية عريقة.
ستمائة سنة ثقافية مضغوطة (على وزن السنة الضوئية)، كانت مثقلة بتجارب مبتدئين واستراحات محاربين واحتفاءات وتطويبات كثيرة، وهي نموذج لحالات ثقافية مماثلة محلياً وعربياً، وقد آن الأوان لمراجعة جادة والنظر في خيار الانعطافات المتاحة أو ربما اجتراح انعطافة مبتكرة.
عاشت حمّى التخصصات عقوداً طويلة ولا تزال بقايا ذيولها، إلا أن حمّى التقنية المتصاعدة بالمقابل خلطت الأوراق ومزجت الاختصاصات وباتت المعالجات الثقافية للسياسة والاقتصاد، كما هو التناول الاقتصادي لحقول العلوم والثقافة وغيرها أمراً سائداً في نمط الكتابة المعاصر. ولذا فإن التمسك ببقاء هذه الموائد الثقافية التقليدية سيكون أشبه بالتشبث بلغات مندثرة أو التعصب لتقاليد قبائل بائدة.
وإذا كانت الحقبة التي ازدهرت فيها الثقافية وأثمرت هي الحقبة الأكثر وفرة في الإنتاج الثقافي والأدبي محلياً لأسباب لا تعود، حتماً، إلى محض طفرة إبداعية أو نضوج ثقافي مجتمعي ملحوظ، فإن هذا رغم كونه ملمحاً تفاؤلياً باستمرارية النهج السائد للوسائل الثقافية التقليدية، إلا أنه قد لا يعدو كونه مدّاً كمياً يتماهى مع كافة المظاهر الكمية تنموياً وتعليمياً واقتصادياً، ولا تمثل بالضرورة إنجازاً نوعياً يمكن التعويل عليه. خصوصاً وأن النقد قد خفتت جذوته أو أنه اتخذ مسارات أخرى منساقاً مع معطيات وبرامج التقنية الحديثة الطاغية.
حقبة قديمة تنطوي بكل ما فيها أمام موجةٍ جديدة طاغية تأخذ في طريقها كل شيء ولا أحسب الثقافة التقليدية وقنواتها بمنجى من ذلك.
تحيةُ إعزاز وإكبار لعرّابي الثقافية وفرسانها على جهودهم وأحلامهم الصامدة، تحيةٌ أشبه بتلويحة وداع.
** **
- عبدالرحمن الصالح