رمضان جريدي العنزي
البيوت في حي المطار القديم عشوائية، بعضها متلاصق، وبعضها الآخر متباعد، بعضها مبني كله، وبعضها مبني جزئيًّا، بعضها مبني من الطين والبلوك السادة، وبعضها الآخر مبني من الزنك والخشب.. لم تكن بيوتًا بالمعنى المعروف، مجرد حزمة مساكن متلاصقة ومبعثرة، تمتد في تعرجات غير مستقيمة عشوائية، وليست مرتبة، ولا تستند لمواصفات بناء ولا مقاييس هندسية.. قطعة خشب من هنا على قطعة صفيح من هناك.. طين من هنا على بلكة أو حجر من هناك.. تتفاوت مساحات البيوت طولاً وعرضًا، بعضها مدهون بألوان نافرة ومتفاوتة، وبعضها خالٍ من أي لون. السكان القاطنون بالحي يتفاوتون؛ منهم موظفون مدنيون، ومنهم عسكريون - وهم الغالبية - ومنهم مَن يمتهن بعض المهن البسيطة الأخرى. الطرق ترابية متعرجة وضيقة، لا تعرف الأسفلت، فقط طريق ضيق، دكَّت الأقدام نصفه، ودكته قوائم الدواب ودواليب السياكل والدراجات النارية، والنصف الآخر محجوز لأكوام القمامة التي تحترق ذاتيًّا غالب الوقت.. حلقات الأدخنة الناتجة من الحرائق في ذلك الحي القديم دائمة ومستمرة. الطرقات لا تعرف الأرصفة، وعندما يسقط المطر تصبح وحلاً وطينًا؛ ويصبح السير فيها نوعًا من التحدي والمغامرة. لم يكن هناك أعمدة نور ولا حدائق، فقط بضع حشائش نمت بفعل مياه المجاري ومياه الأمطار الراكدة. الطريق السالك الوحيد نتيجة دك الأقدام له هو ذاك الطريق المتجه لدكان «عمر الحضرمي»، ذلك الرجل النحيل، صبيح الوجه، الذي بلا أشداق، يلبس طوال وقته «الوزرة» وقميصًا ملونًا ذا ألوان باهتة، وينتعل «زنوبة». يعمل طوال وقته في دكانه، وينام فيه.. يعرفه كل سكان الحي، ويقدرونه، ويحبونه؛ كونه لطيفًا معهم، يساعدهم، ويمهلهم في الدَّين والسداد. كان يجلس منذ الصباح الباكر أمام دكانه بعد أن يرش يدويًّا الساحة الترابية التي أمامه بالماء؛ ليهدأ عنها الغبار إذا ما هبَّت ريح.. يدقق في المارة طويلاً، ويرمي سلامه على كل مار.. يميز غريب الحي، ويعرفه من أول وهلة.. يملك ذكاء مميزًا وحدسًا.. لدكانه إضاءة قليلة، تطل من الفانوس المعلق في أعلى دكانه الخشبي المصنوع من ألواح «بليوت»، وكانت حينها تلك الألواح فاخرة وثمينة. كان لا يكف عن الترنم بالأغاني الحضرمية، وهو يقتل الوقت برصف محتويات دكانه وترتيبه. قال لنا مرة ونحن صغار إن خالته أنجبت طفلاً، له رأس كبير، وجذع صغير، لكنه بلا أطراف ولا فتحة شرج، ومات قبل أن يتم أسبوعين. حذها زوجها كثيرًا بأن طلاقها مرهون بحملها التالي. لم يتخيل نفسه مخلفًا أولادًا معاقين؛ فتصبح وظيفته هي فقط إطعامهم وكسوتهم ومعالجتهم والاعتناء بهم. كان يريد أولادًا أصحاء عطفًا على كونه لا يحب المسؤولية، ويهرب منها. أحزنتنا تلك القصة، وظهرت على بعضنا بعض الدموع المنفلتة. كنا كل ليلة نأتي إليه بعد المغرب، نجلس بأدب ووقار واستماع متناهٍ؛ ليلقي على مسامعنا القصص المتنوعة. كان يستخدم أسلوبًا شيقًا في الإلقاء والاسترسال، يواكب استيعابنا وإدراكنا وفهمنا، وكان عندما ينتهي من قصصه التي نألفها يطلب منا أن نغادر؛ لننام؛ لكي نصحو باكرًا، ونذهب إلى للمدرسة بعقول منفتحة وأبدان نشيطة. طلب مني مرة أن أكتب له رسالة لابنته، وقال لي اكتب: عائشة يا غزالة أبيك، روحه وقلبه، هل طالت ضفيرتك بعد أن طالت غيبتي عنك؟ وهل ما زلتِ نحيلة؟ يا عائشة قولي لجدك إن أباك قد هدته المتاعب والمواجع، وأضناه البُعد والاغتراب، وعندما أجيء في السنة القادمة سأشتري لك هدية تليق بك. حزنتُ ساعتها، وبكيتُ. قال لي: لا تثريب عليك.. الغربة يا بني تجعل من الإنسان أكثر حنانًا وإنسانية ورقة. وقفتُ فجأة، ولم أجرؤ على الجلوس، وشردت بذهني طويلاً.. قال لي: الروح يا بُني كالآبار، تنضب حينًا، وتمتلئ أحيانًا أخرى.. فلا تبتئس. كان يحفظ أشعار ابن الرومي والمتنبي والفرزدق وجرير، ويحب شعر الخنساء، ويروي لنا القصص. حينما نجلس عنده نفتح أفواهنا بدهشة وانبهار لجمال أسلوبه، وتميُّز طرحه، وتفرُّد سرده، وجودة حياكته للقصة.. كان لا يوجد في الحي شبكة ماء، بل كان يتم جلب الماء من بعيد بواسطة صهاريج الماء (الوايت).. العربات الخشبية الصغيرة المدولبة التي يجرها الحمار تتجول دائمًا في الحي لبيع «الكاز» الذي يحتاج إليه غالبية سكان الحي للطهي والإنارة والتدفئة. «فرقنا» ذلك الرجل اليمني الذي يدور في الحي بصوته المعروف، وأهزوجته المميزة.. (فرقنا.. فرقنا). اسمه سالم، كان أسمر ونحيلاً، لا يكل ولا يمل، ولا يتعب من المشي والتصويت. يفتح (بقشته)، وهي عبارة عن لفافة مليئة بالبضاعة المتنوعة من أقمشة وبراقع وجوارب وفكس ودراريع جاهزة وبيجامات شتوية وبعض من ملابس الأطفال، يبيعها لنساء الحي، مربوطة مع أطرافها الأربعة (صرة)، يفتحها عند عرض البضاعة للزبونة، ثم يعيد ترتيبها من جديد.. لا يغضب ولا يحزن إن لم تشترِ النساء منه. كان سوق الحي الصغير والوحيد محشوًّا بالاس والمتبضعين، شوارعه ترابية غير معبدة، ولا مرصوفة، ومليئة بالأكياس وبقايا التبضع والزجاج المكسور والخردة والحفر. السوق مليء بالعربات الصغيرة المحملة بالصناديق والأواني والخردة لبيعها على المتبضعين.. شنط بلاستيكية، وجراكل فارغة، وإطارات سيارات مستعملة، وأبقار وأغنام.. وكل شيء معروض للبيع والشراء. كنا نمشي في سوق الحي كثيرًا، نقفز من شارع لآخر، نلهو بلا تعب، مثل عصافير تعلم يقينًا أنها مخلوقة للطيران، وأن الأرض ليست مكانها.. نركض وراء عربة (الكاز) الخشبية التي يجرها حمار منهك بشقاوة مفرطة، ونتبارى في سباق ماراثوني للركض خلف عربة (الفليت) التي ترش الحي لقتل الحشرات اللاسعة والبكتيريا والجراثيم.. فئران وضفادع ومخلوقات غريبة تخرج من المجرى المحاذي للسوق.. كائنات وحشرات لا ملامح لها، تتشبث بأعواد الزرع النابت على حواف المجرى.. بنعومة تتسلل الرائحة فتعيق رئة المصابين بالربو عن عملها في سحب الشهيق وطرد الزفير.. الدكاكين الصغيرة، تنبعث منها رائحة المبيدات الحشرية التي يكثر استعمالها لقتل البعوض والقضاء عليه. لقد ارتبطت هذه الرائحة ارتباطًا شرطيًّا بالشارع الذي كنت أجوبه صباحًا وظهرًا متوجهًا إلى مدرستي الابتدائية (الفرزدق) أو عائدًا منها. على ناصية الشارع هناك مخبز بلدي، أزوره كل يوم حاملاً شنطة بلاستيكية (علاقية)؛ لأضع بها الخبز، ثم أعود به مسرعًا إلى المنزل قبل أن يبرد. أم راشد هكذا كان لقبها، مات عنها زوجها، ولم ترزق بأولاد، ولم نكن نعرف لها أحدًا، وتعيش وحيدة، وتسكن في بيت طيني قديم جدًّا، ومهجور مع عدد من الدجاج والقطط والجراء الصغيرة. كانت مثل شجرة عتيقة في الصحراء وحيدة. في كل مساء كانت تذهب للسوق، تبحث عن بقايا طعام فاكهة وخضرة، وبقايا سبانخ وكراث، وأنصاف عيدان (رجلة) صالحة للطهي، وبعض أصابع موز سوداء وتفاح.. تنظر يمينًا وشمالاً من حولها قبل أن تعبئ محصولها اليومي مما فاض عن حاجة البائعين أو سقط. كانت تفعل ذلك يوميًّا حتى صارت أشبه بحرفة. كانت تبحث في المخلفات، تتحسس رؤوس أصابعها، ومن ثم تشمها للتأكد من مدى صلاحيتها للاستعمال! تتفحص بقايا الخضراوات والفاكهة بيد خبيرة.. تنتقي ما يصلح لها، ومن ثم تضعها في شنطة بلاستيكية، تُحضرها لهذا الغرض.. تفتحها، وتبدأ عملية التعبئة.. تملأ الشنطة حتى أنه يتعذر عليها حملها.. تقاوم حتى ترفعها فوق رأسها وتسير.. تتمتم ببعض الكلام، وتندحظها، قبل أن تدلف إلى بيتها الخرابة. تُقبل عليها الدجاجات والقطط والجراء الصغيرة، تستقبلها بما يشبه الزفة، تلتف حولها بأصوات مختلفة، وحركات متشنجة.. تحط حمولتها، وتجلس لتستريح فوق حجر كبير، له استخدامات عديدة؛ فهو كرسي للراحة، وموقع لتكسير الأشياء، وسَن السكاكين.. تبدأ في تنزيل حمولتها مما تسنى لها جمعه، وترمى للدجاج والقطط والجراء نصيبها.. تمضغ بعض الخيار وبعض التفاح.. تنتهي من مضغها وبلعها.. تتثاءب ملء فيها.. تتعوذ من الشيطان الرجيم، ثم تكتشف أنها نست أمر السفوف الذي وعدت به جارتها أم أحمد المريضة أن تصنعه لها، التي باعت من أجل أن تتعافى سوارتيها القديمتين والوحيدتين اللتين في يدها. كانت أم راشد تمارس دور القابلة أحيانًا، وتعالج النساء أحيانًا أخرى من واقع خبرتها وعمرها وحاجتها المفرطة. استقر شكل أم راشد في عقلي، وتشعب، ولا يزال. مدينة الرياض التي كان فيها ذلك الحي في عمومها كانت من أصغر العواصم حينذاك، قبل أن تصبح الآن من كبرى عواصم العالم مساحة، طولاً وعرضًا وتمددًا، وكانت تستهلك من الكهرباء أقل مما يستهلكه برجا الفيصلية والمملكة في وقتنا الحالي. البطحاء كانت عبارة عن مول مفتوح، نذهب إليه ونتسوق، نشتري اللحم و»مونة البيت» والملابس. المعهد الملكي الصناعي بقُبته الوردية كان بالنسبة لنا مَعلمًا سياحيًّا كما هو علمي. الذهاب لحديقة الحيوان يعتبر درسًا ثقافيًّا، يعادل برامج في الناشيونال جيوغرافيك. قصر المصمك أيضًا كان مَعلمًا وما زال، وهو حصن مُحكم مربع ذو أبراج وجدران سميكة، يقع في الحي القديم في وسط العاصمة. اقترن هذا الحصن بملحمة فتح الرياض البطولية على يد الموحد الملك عبدالعزيز آل سعود - طيب الله ثراه -. كان مزارًا لنا وفسحة، عظة وعبرة. «منفوحة» الحي الأشهر والأقدم في العاصمة الرياض، التي ارتبط اسمها بالشاعر الشهير «أعشى قيس» حتى أنه خلد اسمه في أحد شوارعها.. كنا ننام في سطح المنزل، نتأمل السماء، ونناجي النجوم، ونحاول عدها، وفي كل مرة نفشل.. لا صوت مكيف، ولا إزعاج سيارات.. كانت الأسواق والشوارع والأحياء تسمى بأسماء أصحابها ومؤسسيها أو الأشياء المتعارف عليها، مثل حلة العنوز والقصمان، وسوق ابن دايل وشارع السويلم وشارع الريس والصفاة والظهيرة والبديع والمشيقيق، وعتيقة الذي نُسب إلى أسرة قديمة من آل عتيق، وسوق العطايف نسبة إلى آل عطيف، والثميري، وحراج ابن قاسم، وسوقلوزير نسبة إلى الوزير عبدالله السليمان، وسوق الرخوم الذي له قصة طريفة، هي أن ثورًا هائجًا أمام سوق البقر لم يستطع أحد الوقوف أمامه، بل هرب معظم مَن في السوق خوفًا من بطش هذا الثور الذي وقف بشموخ وكبرياء وحيدًا أمام البقر. كان من يأتي إلى الرياض حينذاك، ولا يوجد له أقارب، ينام الليل في المسجد بعد صلاة العشاء، حيث كان الظلام حالكًا، والإنارة معدومة، إلا من سراج يحمله المؤذن معه ليلاً إلى بيته بعد أن يغلق المسجد، ويعود به لاحقًا إذا أراد أن يؤذن للفجر، فينزوي من يريد النوم في إحدى زوايا المسجد، وبعد أن يغلق المؤذن الباب يستمتع بنوم عميق إلى أن يأتي المؤذن لصلاة الفجر، فيفتح المسجد، فيصلي مع الجماعة الفجر، ويذهب إلى حال سبيله؛ إذ لم تكن هناك نزل للإيجار كالفنادق في ذلك الوقت..
ذكريات رطبة جاءتني برائحة الماضي، تتداخل فيها عناصر كثيرة، حركت فيها الدال نحو الدلالات المباشرة، محاولاً مخاطبة الوجدان والشعور والحقائق المعاشة.. حاولت أن أجمع في هذا النص بعض الأشياء التي ما زالت مترسبة بالذاكرة.. هذا النص لا يصور كل ما في الماضي، ولا يحاكيه كله، ولكنه يعبِّر عن جزء يسير منه، ويشكله ببعد مقنن.. جعلت النص مفتوحًا وسهلاً، بعيدًا عن الرمزية في المعنى والضبابية في الطرح.. النص به من المواقف التي استوعبت رقعة كبيرة من ذاك الزمن العاج بالعاطفة الإنسانية النبيلة، والرابطة الاجتماعية القويمة.
إن فَقْد الأمكنة الجميلة كفقد البشر؛ يصيب الروح بالانكسار، والقلب بالوجع.. الزمن السريع التهم تلك الأيام الخوالي الرائعة، لكن شذاها ما زال حيًّا في الذاكرة؛ لذا تراني دائمًا أزور الماضي، كمن يبحث عن شيء في ماضٍ لن يعود.. أنبش في رماد الذكريات عن بعض الجمر؛ لينبض في روحي الحياة محاولاً أن أحيا يافعًا من جديد.
لقد كان حي المطار القديم بالنسبة لي جزءًا مهمًّا من حقبة عمر زاهية، لن تنمحي من الذاكرة، ولن تزول. الذكريات تترى تباعًا، لكنني كرجل شرقي جعلتُ لي صندوقًا أسود صغيرًا، خبَّأته في عقلي، وألقيت به في صدري، ولن أخرج محتوياته.. وبالرغم من عدم رغبتي برؤيتها إلا أن محتوياته تطل علي من حين لآخر. إن الصندوق الأسود الصغير لا بد أن أبقيه مغلقًا ولا أفتحه، مهما امتلأ بالمحتويات؛ لكي لا تخرج الأشياء كلها منه، ولا أعد قادرًا على جمع شتاته.