أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: نقل (الشاطبي) في كتابه (الموافقات) 4 /195 أنّ الإمام (منذر بن سعيد البلوطي الظاهري) رحمهما الله تعالى: يرى أنّ العربيّ غير مطبوع على العربية لقوله تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [سورة النحل/ 78].
قال أبو عبدالرحمن: لا علاقة لهذه الآية الكريمة بما ذكره (منذر)؛ لأن ملكة الكلام التي هي فطرة وجبلّة لمن لم يخلقه الله أخرس: مرحلة تأتي بعد خروجنا من بطون أمهاتنا بمدة، والله أعطى كل شيىء خلقه ثمّ هدى؛ فكسى عظام المولود لحماً قبل ولادته، وأتم خلقه على الهيئة التي أرادها له؛ ثم هدى؛ فبدأت الهداية بالغريزة، وتكاملت الماهية بالتدريج؛ فيقعد بعد التمدّد، ثم يحبو، ثم يقف، ثم يمشي ..إلخ؛ فإذا كان في حضانةً عرب على السليقة: فسيتلقّى لغتهم سليقةً بالتدريج؛ ومعنى سليقيّتها: أنّه لا يحتاج إلى قاعدة، ولا إلى اصطلاح، ولا إلى تعليل؛ بل ينطق بكل مفردة، وبكل صيغة بالتشكيل اللائق في كلّ ذلك فطرة وجبلّة؛ وهذا معنى السليقة.. وهكذا إن كان محتضنوه عرباً بالنّسب عوامّ في اللغة: فإن عاميته سليقة؛ ولا يتحول من العامية إلى لغة السليقة إلا بعسر عن تعليم واصطلاح وتقعيد وتقسيم؛ ولا يكاد يجيد التطبيق إلا بأناة ومراجعة.
وزعم (ابن رشيق القيرواني) رحمه الله تعالى في كتابه (العمدة): أنّ من أنواع الإشارة التورية كقول (عليّة بنت المهدي) في طلّ الخادم:
أيا سرحة البستان طال تشوّقي
فهل لي إلى ظلّ إليك سبيل
متى يشتفي من ليس يرجى خروجه
وليس لمن يهوى إليه دخول
فورّت بظلّ عن طلّ؛ وقد كانت تجد به [أي شديدة الوجد بحبّه]؛ فمنعه الرشيد من دخول القصر، ونهاها عن ذكره؛ فسمعها مرة تقرأ: {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ} [ سورة البقرة/ 265].. فما نهى عنه أمير المؤمنين.. أي {فَطَلٌّ}.. فقال: ولا كلّ هذا.
قال أبو عبدالرحمن: الظاء في البيت معجمة غير مهملة؛ ولا يفهم البيت إلا بالإعجام، ولا تتصوّر التورية في مثل هذا إلا بالنطق لا بالرسم؛ والله أعلم بمدى صحة: (فما نهى عنه أمير المؤمنين)!! .
قال أبو عبدالرحمن: لقد آثرت في هذه المرحلة من العمر أن أقطع باب المجادلة في الحديث الشّفهيّ بمجالسي؛ لأنها تقسّي القلب، وتغرس البغضاء، وتوجب الازدراء لمن يجادل بغير علم، وتدفع إلى حدّة الغضب بردّ وتبكيت يحرج المجادل في المجلس، ويزري به؛ فيؤول الأمر إلى ندمي، وملازمة تأنيب الضمير.. ووجدت خيراً من ذلك في المشافهة أن أبدي ما عندي إن كنت متطوّعاً أو مسؤولاً عن شيء مصحوباً ببيان يجلو التصوّر، ويسهّل فهم البرهان؛ فإن حصلت مداخلة من ذي علم: بقيت مصغياً، ثم أبدي ما عندي مقنعاً أو مقتنعاً. فإن جاءت مداخلة من غير ذي علم قلت: (هذا ما عند العبد الضعيف، وما عندكم لم أفهمه بعد، وسأجتهد في فهمه إن شاء الله إن وجدت سعةً من الوقت.. جعل الله في علمكم البركة)؛ فأسلم من إيذاء أخي المسلم بقوارع النقد الجارح.. وأما ما أحرّره مكتوباً في تأليف، أو دوريّة، أوجريدة : فالأناة فيه واسعة، وتحقيق الصواب والإصابة مستدرك، وعذري فيما هو مكتوب جليّ إن أهملت مناقشة مداخلة، أو طارحتها برفق وودّ، أو دمغتها بحملة تأديبية!!..فإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.