ها أنا ذا هنا لأقول كلمتي.. كلمتي التي احتفظتُ بها أعوامًا ثلاثة، التي لم يسألني عنها أحد وسكنت حنجرتي كل تلك الليالي بلا رحمة، تقرع باب اللغة ولا أجد لها مرادفًا ينقلها إلى آذانهم التي لم تأبه منذها لسماعي.. كأن اختناقي بها قضاء وقدر، وفي تقدير أسوأ عقاب أستحقه. أقول كلمتي لأقتل الشعور الذي لازمني أكثر من كفارة لذنب أرعن إن افترضنا فداحة الفعل، ولأجل الوجوه الوديعة التي تركتها وما زالت تحتفظ بابتسامتها معلقة بين ملامح بريئة بسذاجة تنكأ جرح الضمير في كل مرة. أعود إلى الأعوام الثلاثة رغم أنها لم تغادرني أبدًا.. أعود إلى داخلي أقتلعها منه بفأس فلاح يحرث أرضًا مما تبقى من جذور، أقتلعها وأضعها لأمضي بدونها.. أمضي فتصير ماضيًا أتذكره لا حاضر مبهم، يحاصرني قبيل منامي، وأكفر عن كل هذا بالدعاء لهم بالعوض بعنجهية الذي يظن نفسه مكسبًا ماجدًا رغم أنه اقترف ذنبًا ليس بهين.
أزعم بأننا ندّخر في ذاكرتنا التصويرية مشاهد متقطعة، لقطات بلا معنى مادي يلفت الانتباه لكن وقعها المعنوي عزيز للغاية. أحتفظ بغروبهم، يمضون مبتعدين بيننا زجاج فاصل أنتبه من خلاله إليهم بينما لا يمكنهم رؤيتي -وبقطْع أخذ وقته- ولا الشعور بي. ما أثقله الزجاج حين تبدأ الصورة تصبح داكنة حتى تتوارى الأجساد ويظهر انعكاس جسدي الواثب خلف الحاجز في محاولة لترجمة الشعور الذي لا يكف يتسلق حائط قلبي الشاهق بلا جدوى، فلا هو الذي بلغه ولا هو الذي سلّم أمره.. ظلّ معلقًا باستفهامات حول ماهيته!
الزمن الشخصي حدث يعبر فيُحدث في عام فردٍ على حدة ندبة أو بوردية يمنحه علامة يؤرخ بها أعوامه، قبل عام الندبة الفلانية وبعدها.. العام الذي يعلق بالذاكرة الطويلة؛ ذاكرة الوجدان بكل ما يخلف الحدث من شعور واضح لحظتها وشعور غريب بعد حين؛ يشبه أولى ليالي الشتاء حالكة السواد بعد صيف طويل. في مثل هذا المناخ السنوي جمّدتُ الزمن.. أدركتُ هذا الادعاء صباح اليوم الذي استيقظتُ فيه من منامٍ يشبه الأحلام التي تصورها لنا السينما؛ بيضاء، صافية، هادئة.. رأيتهم لأول مرة منذ ثلاثة أعوام، قفزوا من ذاكرتي اليقظة إلى ذاكرتي اللاموْعية وعاد الشعور عبثًا يتسلق حائط قلبي؛ لم تكن الغربة في الأماكن أبدًا هي دائمًا في الروح، حين تُمسي غريبًا عن نفسك، تجاهد لتصف ما تحس به لكنك تُفضي إلى لا شيء رغم أنه كل شيء.
أعرف نفسي بقدر معرفتي بأنني أجهلها في كثير من الأحيان، أعرف أن كلماتهم التي تجاوزت حناجرهم وصبّت عواطفها في فؤادي بقيت فيه مكرمة، أصونها عن هوى نفسي حتى، لم أخشَ على ما قالوه يومًا أنا فقط خشيتُ على ما لم أقله! كنتُ أحدثهم عن لميس وعلي في رواية أعراس آمنة ويسهبون بالحديث عن نقاط ضعفهم، كنتُ أخبرهم بأنني أدين غادة السمان لنشرها رسائل غسان كنفاني وكانت لغتهم تزيد بلاغة بالحديث عن مآسيهم الخاصة، كنتُ أمسك معصم الوقت وأبتعد به عني، وكانوا يضمون الوقت إليهم فيكون حميمًا معهم باردًا اتجاهي. أذكر مرةً تساءلتُ فيها: من أين لهم هذا النقاء؟ كيف اتسقوا مع ذواتهم وأذابوا الوهن في قصصهم كما يذوب السكر في دوامة الشاي؟ كانوا نيرين رغم أنهم محاطون بالعتمة على حد تعبيرهم، في المرة الأخيرة قبل الذنب المعلق بين المغفرة وبين العقاب، دسستُ لهم الحلوى في الكتب وقذفوني بكتاب أخير موقّع بتذكرة أبدية أنني المبادر في كل هذا، بأنني من خطى الخطوة الأولى واستدار على حين غفلة، استدار بينما ترقد الأفئدة بطمأنينة الذي وجد كتفًا دافئًا. لعلهم الآن يقرأون الجبان في سطوة الباسل الذي عرفوه يومًا وأساءوا قراءته، أن عيني لم تبادل أعينهم الضحك كما لم تبادل أصواتهم علو ضحكتي، أن الشتاء لم يكن في المدينة لكنه بداخلي أنا، وأن الأكتاف الدافئة ليست سوى لظى المسكوت عنه، وأننا كُثر الذين نحاول أن نجعل القابل للبوح قابلاً للبوح.. ونفشل مرتين، مرة أمام أنفسنا ومرة أمام خذلاننا لهم. أُجزم بأن القصص هي الوكيل الأول بتقريبهم إلينا، تطوي المسافة الافتراضية الأشبه بالغربة فتألف الحكايات بعضها. لكنها قصتي.. قصتي معضلتي التي لم أجد للإفصاح عنها وسيلة.. أهرب بها عن أي عين تتربص بفضول رغم أن لا عين متربصة أحاطتها يومًا لكنني أتوخى توخي الحذر. أحملُ متاعي الذي تكوّن بفعل الوقت لا بفعلي، وأبتعد.. بهدوء الذي لا يريد أن يوقظ أبطاله، وغادرتهم بلا كلمة.
** **
- هياء عبد العزيز الزومان
@hayaalzuman