الثقافية - محمد هليل الرويلي:
أحُسْن تدبير وتقدير منك يا أعرابي كما عهدنا عن أنجاب ودهاة الأعراب؟ أم أن صدفة الطوالع وتصاعد أنجم السعود زامناك وجاباك لكويتنا في «فبرايرها» شهر أعيادنا المقروعة فيه أقداحنا بالأمجاد المعلاة وأضواء أبهاج الأهلة «هلا فبراير». لكن على كل حال ومآل ومهما كان أمر هبائب رياحك، أهلاً بك بهذه المناسبة الوطنية الكويتية التي يحتفي بها أسياد قومنا والرجال والنساء والأطفال من شعبنا منذ عام 1999م، ليومنا هذا المزامن من سبتك المشهود برقيمك ودهاقك ناشرًا مادتك الأدبية حول تجاربنا. منذ قفولك للخليج الأسبوع المتصرّم، وأنت تجول ميادينها تُحلق وتُبحلِق عينيك سالكًا الفجاج لسوق المباركية، ومتسلقًا جبل وارة، أو واقفًا قبالة القصر الأحمر بالجهراء. حينًا نراك تصفق مع جماهير الطرب والفن المحتشدة، وحينًا تتغشاك بعيدًا عن المدينة صفرة العرواء وهياج الريح الباردة. فلا تكاد تبين، ولا نلحظك إِذ لا يمكن القبض عليك، فتفر فرار طائر الطنان الكوبي شاديًا تقول: حبًا في الكويت لا مِسَاس.
وفجأة تخفق أجنحتك من جديد فلا نجدك إلا وأنت تتشكل وتحط متصورًا على هيئة نوارس تحن لمواسمها أمام شواطئ «جزيرة فيلكا» أو عند مراكب السفن تستمع لأهازيج الصيادين وهم قابضون «مِنْجَافِها» فينادي عليك أحدهم محذرًا: ذر «المنْجُوفُ» إذا هذر ومذر، أصخ سمعك فقط يا ضيفنا الأعرابي لأولئك البحارة وهم يرددون أهازيجهم للحياة يحدثون عنها الأرصفة والطرقات وزجاج البنايات المقابلة «للسيف»، اسألهم عن سيف (إخوة مريم) ولموعه يوم بات العراء الممسد فوق رمال الصحراء في ليلة جبذت منها ماهال شيبًا بذاكرة الأبطال من يومي عيدي الاستقلال والتحرير (25 - 26 فبراير)، أذاكرة الأمجاد والأعياد حوّلت سموم القيض لهاجرة صيخودية، أم أنها بدت بعد تلك في عهد يدثره الدفء والتآلف والعناق «ليلة عرية».
إن مضيت عد أيها الطائر مع دخول شهر فبراير، أو عد قبل ذلك مع دخول فصل الشتاء أواخر ديسمبر، تشكل على هيئة طائر «الفلامينغو»، أو حتى على هيئة نَسر طاعن في السن لكنه مصر على أن يستعيد أمانيه خافقًا ما تبقى بجناحيه من ريش فوق الدروب المنتصبة غرب الكويت، أو تحت حلوج السحابة البارقة شرقًا، اخفق جناحيك يا طير شمالاً وجنوبًا على طول السواحل. وعُدْ للكويت كلما أورقت أحلامنا التي ابتذرناها للغد وافترشناها في كل اتجاهات الحياة.. عُد هنا الكويت، وليس حقلاً انبعثت منه ذاكرة النفط فقط. عُد يا أعرابي لتسجل: نحن الكويتيين فما شِدناه لغدنا وشَيّدناه لبعد غدنا، إنما كان ومازال وسيظل منبعه ومبعثه الكائن الكامن المتحرك (كويتنا حضارة الأرض وإِنسان).
لاذ الأعرابي بصمت له ألف معنى، لم يفعل شيئًا أكثر من كونه أدار وجهه لجميع الزوايا بلحظة واحدة متجمعة ناقلاً عينيه وروحه لتحيط بها ولتحيط بكل أسرار الزوايا التي يمّم وجهه صوبها. تحاشدت الأصوات وازدحمت الحكايات، انحنى خاشعًا أمامها وبعد أن قبض قبضة من الرمل بيده اليمنى وبشماله قبض من الهواء قال: لعينيك كتبت رسالتي هذه بيد أنني لن أزٍد على ما وصفه الكرام. فليس بعد وصفهم وصف يُقال وما هذا الحديث المخصوص اليوم عن تجارب رواياتهم وقصصهم إلا شهادة وإمضاء كتبناه بعد أن دخلنا صالونات منازلهم، ومررنا على مقاهيهم التي أعدوها لتكُن متكآت للآداب والفنون فيشهقون ويزفرون أوراقهم وأصواتهم المشتعلة على شكل عمود فني ذي رائحة إبداعية. فدونكم اشتعالهم تنفسوه بنقاوة، من أعماق قصبات اتسعت لها رئة الحضارة الكويتية..
مرجعيات الرواية الكويتية *
كشف البروفسيور مُرسل فالح العجمي - جامعة الكويت- أن للرواية الكويتية مرجعيات وأنماط عنونة مازتها عن كثير من الروايات العربية الأخرى كونها تحيل المتعة الحكائي في المدونة الروائية الكويتية إلى عديد من المرجعيات المتعددة وقال «العجمي»: من أبرز المرجعية في الروايات الكويتية مرجعية الواقع الاجتماعي المعاصر، كروايات «طالب الرفاعي، وحمد الحمد، وبثينة العيسي». وهناك مرجعية الحنين إلى الماضي ممثلا ً بالكويت القديمة كويت الغوص إِذ تشكل المعطيات الاجتماعية لتلك الفترة، الأرضية السردية لهذه المرجعية، كروايات «ليلي العثمان، وميس العثمان، ووليد الرجيب» ورواية النوافذ لفوزية السالم. وهناك مرجعية الخيال العلمي، التي تتخذ من المعطيات العلمية، مرجعا ً وموضوعا ً لعالمها الروائي روايات «طبية الإبراهيم». وهناك المرجعية التاريخية، وتظهر في الروايات التي تتخذ من حدث تاريخي محدد، موضوعها الرئيس، ومرجعها الحكائي -وأقصد هنا- احتلال العراق للكويت إِذ كتب إسماعيل فهد إسماعيل روايته الطويلة إحداثيات زمن العزلة، وسليمان الخليفي روايته «عزيزة».
وأضاف «العجمي» وهناك المرجعية الأسلوبية، وتظهر في الروايات التي اتخذت من «سمة أسلوبية» مرجعا ً حكائيًا، كما في روايات «فوزية السالم» التي يمكن أن يطلق عليها رواية الوصف، وذلك لطغيان الوصف إلى حد جعلها لقطات وصفية أكثر من كونها روايات بالمعني الدقيق للكلمة. أما المرجعية (الأيدولوجية)، فظهرت في الروايات التي يطغي عليها الموقف «الأيدولوجي» المسبق للمؤلف، إلى حد يجعلها مجرد وسيلة يعد من خلالها كاتبها عن موقف يدعو إليه بصورة مباشرة وعلى حساب الكتابة الفنية، أطلق على هذا النوع من الروايات رواية «الأدلجة» وظهرت عند سعاد الولايتي، وخولة القزويني. أما المرجعية «العجائبية» فظهرت في الروايات «الفانتازية» يتم فيها كسر الحواجز بين الأزمنة والسابقة واللاحقة، ويسمح للأبطال بالانتقال بين هذه العوالم، بطريقة غرائبية غير معقولة، حسب مقاييس عالمنا الأرضي، تجلت هذه المرجعية في روايتين فقط (الكائن الظل وغيوم وكنز في السماء).
بعد تجليات الخطاب الكويتي
«أنماط العنونة» *
وبين الدكتور «العجمي» أن أولى تجليات الخطاب التي يقابلها القارئ قبل أن يشرع في قراءة النص «العنوان». وفي الرواية الكويتية ظهرت أنماط مختلفة من العنوان، يمكن تحديدها بالآتي: نمط العنوان المباشر الذي كما في الروايات «المصير المجهول، بائعة اللبن، عزيزة، الشباح « وفي هذا النمط يتطابق العنوان مع مراجعة، ليقدم دلالة تاجرة تتعلق بمرحلة مجهولة، أو بفتاة محددة، أو بحيز جغرافي. وهناك نمط العنوان المؤول، الذي يؤسس دلالته على طريقة تأويلية يقوم بها القارئ في أثناء قراءاته للرواية. أما نمط العنوان المكون في الروايات الكويتية وأقصد بهذا النمط أن العنوان يؤدي دورًا مهمًا في تكون البنية السردية للعالم الروائي. فنجده في رواية «وسمية تخرج من البحر» لليلي العثمان. كما يظهر في الروايات الكويتية نمط العنوان الفرضي، وتعد عناوين روايات حمد الحمد نموذجا ً لهذا النمط «زمن البوح، مساحات الصمت، الأرجوحة، مساءات وردية.
القصة القصيرة في السياق الكويتي
وفي محور آخر نتناول فيه الحركة القصصية في الكويت رئيس نادي القصة الكويتي ورئيس الاتحاد العربي لأندية القصة والسرد الناقد بدر أبو رقبة العتيبي أن القصة القصيرة ظهرت بشكلها الأدبي الحديث في الكويت أول مرة منذ أن نشر الأديب والشاعر الراحل خالد الفرج قصته اليتيمة «منيرة» على صفحات مجلة «الكويت» عام 1348 هـ، الموافق نوفمبر وديسمبر في سنة 1929 م. وسارت القصة الكويتية القصيرة الوليدة آنذاك على نهج وخُطى شقيقاتها القصص العربية القصيرة في مصر وبلاد الشام وتحديدًا لبنان من حيث ظهورهن جميعًا في أحضان الصحافة، معلنات عن بداية سطوع نجم الفن القصصي في القرن العشرين في سماء الإبداع الأدبي العربي، الذي حظي بالحفاوة والترحيب والتقدير حينها بالتأكيد، لما يستحقه من مكانة بارزة بعد أن شهد حراكه السردي تطورًا لافتًا في الغرب (أوروبا وأمريكا) مطلع القرن التاسع عشر.
أما في المشهد الأدبي الكويتي من حيث السياق التاريخي والتسلسل الزمني للأحداث المواكبة لنهضة الدولة هناك، يمكن تصنيف بواكير الحراك السردي المتمثل بكتابة القصة القصيرة، وبروزها كفن أدبي حديث من حيث الجنس والشكل والمضمون إلى مرحلتين مهمتين، وهما: القصة الكويتية القصيرة في مرحلة ما قبل الاستقلال: ونعني بها على وجه الخصوص هنا، كل تلك الكتابات القصصية التي نشرها مؤلفون كويتيون في المرحلة التي سبقت حصول بلادهم الكويت على استقلالها من بريطانيا عام 1961، والمتلازمة لبدء ظهور الصحافة المطبوعة هناك، والمواكبة لطلائع حركة الابتعاث التعليمي للطلبة الكويتيين الموفدين إلى الخارج للدراسة آنذاك، وتحديدًا في الجامعات المصرية لنيل الشهادات الأكاديمية.
إذ تنقسم هذه المرحلة إلى فترتين من حيث السياق الزمني لميلاد فن القصة القصيرة في دولة الكويت، حيث استقطبته بالفترة الأولى باكرًا وفي بدايات صدورها مجلة «الكويت» التي كان يرأس تحريرها الأديب والمؤرخ عبد العزيز الرشيد بحفاوةٍ وترحيبٍ بالغين، كاشفة حينذاك عن بزوغ نجم أول موهبة قصصية محلية في البلاد بنشرها باكورة القصص الكويتية «منيرة» عام 1929 للأديب والشاعر خالد الفرج، التي كانت تعد حينها أول قصة منشورة لكاتب كويتي وخليجي في المنطقة. وقد جاءت رسالة تلك القصة وعظية، وذات مفهوم إرشادي يدعو لإصلاح المجتمع وتطهيره من رجس الجهل عبر صرخة مدوية تطلقها بطلتها الشابة «منيرة» المحبطة من التقاليد البالية التي كانت تواجهها الفتاة الكويتية بحكم العادات القديمة، وحيث حرمتها الكثير والكثير من الحقوق فقط لمجرد كونها أنثى أو امرأة تعيش تحت جور سلطة نظام ذكوري في بيئتها العائلية آنذاك.
مبتعثون للخارج عادوا قاصين
وأضاف «العتيبي» بعد ذلك استكملت مجلة «البعثة» دورها الطليعي في الفترة الثانية من هذه المرحلة عبر نشرها 64 قصة قصيرة متنوعة بين صفحات أعدادها القديمة الصادرة بدءًا من عام 1946 لكتاب شباب كويتيين كانوا مبتعثين للدراسة الجامعية في مصر، ولعل أبرز من سطعت أسماؤهم كقصاصين ممن كانوا يمتلكون أدواتهم الإبداعية وقتها بينهم: خالد خلف بقصته الأولى المنشورة عام 1947 تحت عنوان «بين الماء والسماء»، ويعقوب الحمد الذي نشر قصة في نهاية ذلك العام بعنوان «بسرعة البرق» وهي عبارة عن ترجمة من اللغة الإنجليزية لقصة بذات العنوان للكاتب والأديب العالمي كولن هوارد، وفهد الدويري المُلقب بشيخ القصاصين الكويتيين باعتباره أول قاص كويتي يستكمل بتفانٍ مسيرته الأدبية المتواصلة في مجال كتابة القصة القصيرة وبإخلاصٍ نادر لفنها القصصي المعاصر منذ نشره لقصته «من الواقع» عام 1948.
كما ظهرت بتلك الفترة أيضًا مجلات أخرى من بينها مجلتا «كاظمة» و»الرائد»، اللتان أسهمتا بنشر قصصٍ لكتاب كويتيين شباب يافعين حينئذِ، مما كان له الأثر الكبير بتأسيس جيلٍ واعد من القصاصين المميزين بامتلاكهم مهارة الكتابة القصصية المتطورة بأدواتها الفنية في بداية خمسينيات القرن الماضي، ومن بينهم: فرحان راشد الفرحان، وجاسم القطامي، وخالد سعود الزيد.. وفاضل خلف الذي كان أول مؤلف كويتي ينشر مجموعة قصصية مطبوعة في كتاب عام 1954، «أحلام الشباب». كما شهدت هذه الفترة المبكرة فيما بعد ولوج المرأة الكويتية مجال الكتابة القصصية لأول مرة، عبر نشر قصص في تلك المطبوعات الصادرة آنذاك لبعض الكاتبات الشابات كضياء هاشم البدر، التي تعد أول قاصة كويتية تنشر قصة قصيرة إضافة إلى القاصة هيفاء هاشم.
القصة القصيرة «مرحلة
ما بعد الاستقلال»
وقال الأديب والقاص بدر العتيبي: استطاعت الكويت التحول سريعًا إلى نموذج الدولة المدنية العصرية الرائدة في المنطقة العربية بمجرد نيلها الاستقلال من البريطانيين بموجب اتفاقية عام 1961، والنهوض بمسؤولياتها الجسام تجاه شعبها وداعمة بجهدٍ حثيث التنمية ما انعكس أثره الغض على واقع الأدب المحلي داخلها خاصة ما يُطرح منها كحلول لمشكلات تهم الشارع الكويتي وتمس آثارها مجتمعه الصغير الطامح أفراده ببناء دولة مؤسسات متمثلة بتلك الفترة في عهد أميرها الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح -رحمه الله تعالى- إِذ يُمكن تصنيف هذه المرحلة من عمر كتابة القصة القصيرة في الكويت هنا باختصار إلى أجيال، أسهمت من خلال السياق الزمني برفد المشهد القصصي المحلي بمشاركات إبداعية متنوعة من حيث تطور المستوى الفني للقصة الكويتية القصيرة المعاصرة، مشيرًا إلى أن النقاد وغيرهم من الباحثين المتخصصين في مجال دراسة فن القصة القصيرة في الكويت يُحبذون تقسيم هذه المرحلة من حيث حجم العطاء الأدبي المتزايد، والزاخرة بالتجارب الإبداعية المختلفة إلى عدة أجيال مرتبطة عمريًا بالعقود الزمنية المتسلسلة تباعًا منذ القرن الماضي، حتى وقتنا الحاضر كالتالي: جيل الستينات، وهو الجيل الذي عاصر التحولات المتنوعة في بلاده بعد استقلالها مباشرة، وشهد صعود قضايا قومية مختلفة على السطح (الجيوسياسي) من حوله في الوطن العربي، وغيرها من متغيرات عالمية أخرى، انعكست بلا شك على نتاجه الإبداعي في الحقل القصصي، إِذ رسم هذا الجيل من جديد وبشكلٍ أوسع بإلهام منقطع النظير الخطوط العريضة لملامح كتابة القصة القصيرة المعاصرة في الكويت من خلال تأسيسه لبداياتها بالتجريب، وتدعيمه لرسوخها بذائقة الجمهور من القراء كجنس أدبي حديث يحظى بالتقدير، معتمدًا أساليبه الفنية المتعددة في الكتابة القصصية من ثبات الواقعية السحرية إلى نمو تيار الوعي، ومن أبرز رموزه نذكر «إسماعيل فهد إسماعيل، وسليمان الشطي، وسليمان الخليفي، وعبد العزيز السريع.. وجاء بعده جيل السبعينات الذي استفاد من التجارب الإبداعية في مجال كتابة القصة القصيرة من الجيل الذي سبقه من القصاصين البارزين، خاصة فيما يتعلق بإصدار مجاميع قصصية مطبوعة تحفظ للمؤلفين حقوقهم في النشر، والتعرف على شريحة جمهور أكبر من القراء خارج حدود بلادهم الكويت، مثلما تم تناول أعمالهم وتداولها منبريًا أكثر في دراسات نقدية متنوعة مقبل عديد من الباحثين والأكاديميين المتخصصين داخل الوطن العربي وخارجه عبر ترجمة قصصهم إلى لغات أجنبية عالمية، ومن أشهر قصاصية «طالب الرفاعي، ومحمد مسعود العجمي». كما امتازت تلك الفترة بانبعاث الكتابات القصصية التي نشرتها مجموعة من المؤلفات، واللاتي أثرين فن القصة المحلي بإبداعاتهن المتعددة عبر تطرقهن لمجموعة من القضايا النسوية الشائكة التي تهم المجتمع الكويتي في سبيل تعزيز دور المرأة وإبراز مكانتها التي تستحقها بلا شك، ومن أهم هذه الأسماء اللامعة والمتدفقة «ليلى العثمان، وفاطمة يوسف العلي، وهداية سلطان السالم، وليلى محمد صالح، ومنى الشافعي، وثريا البقصمي».
استعانوا (بالفانتازيا) وتمسكوا بالصحراء والبحر
ثم تبعهم جيل الثمانينات وشهد استكمل كتاب القصة القصيرة في ثمانينات القرن الماضي مسيرة الإبداع القصصي، إِذ كانوا أكثر اطلاعًا على التجارب المحيطة السابقة في مجال الكتابة القصصية محليًا وخليجيًا وعربيًا، واختلطوا بثقافات أخرى مختلفة خاصة تلك التي كانت تفد مع المقيمين الأجانب في بلدهم الكويت، وابتكر مبدعو هذا الجيل تقنيات فنية أكثر تطورًا واستعانوا «بالفانتازيا» ووظفوها بعمق في تجاربهم الكتابية، إضافة إلى إصرار ثلة منهم على التمسك بإبراز الهوية الكويتية، واستحضار التراث المحلي بحرص في بعض أعمالهم الإبداعية منطلقين بأجنحة الإبداع من أثر نسيج بيئتي البحر الساحلية والبادية الصحراوية، ولعل من أشهر أسماء هذا الجيل اللافتة في المشهد السردي، والمتمثل تحديدًا بكتابة القصة القصيرة هنا هم: حمد الحمد، ووليد الرجيب، ووليد المسلم، ونجمة إدريس، وعالية شعيب.
وتابع: كما استطاع جيل التسعينات المزامن لمرحلة ما بعد حرب التحرير إثبات حضوره الإبداعي في المشهد القصصي المحلي والخليجي والعربي من خلال مشاركاته المتعددة بنشر نتاجه الأدبي المتنوع خاصة إسهاماته الثرية منها في مجال الكتابة القصصية، فلقد انتعشت الحياة الثقافية ودبت الحركة الأدبية من جديد في شرايين الكويت المجبولة على الإبداع دائمًا بمجرد عودة الحق إلى أصحابه. كما شهدت تلك الفترة ميلاد أول نماذج قصصية محلية من أدب الاحتلال منددة بفظاعاته الوحشية التي يندى لها الجبين، ومبرزة حكايات واقعية لأبطال المقاومة الشعبية الكويتية، وغيرها من قضايا وهموم أخرى ذات ثيمات مُلحة مشتركة تهم القارئ العربي في كل مكان، ومن أشهر كتاب هذا الجيل: بدر أبو رقبة العتيبي، وفوزية السويلم، وباسمة العنزي.
إلى أن برز جيل مطلع القرن الواحد والعشرين وما بعده: واستمد كتابه حضور مادتهم الإبداعية المبنية على حرفية قصصية من هيمنة وسائل التكنولوجيا الحديثة على حياتنا الاستهلاكية المعاصرة، التي تكاد أن تكون تفاصيلها منشورة كواقعٍ مُعاش في مجمل نتاجهم الأدبي لما لها من تأثير تفاعلي واضح بيننا اليوم، فمن النشر الإلكتروني وشيوع الأدب الرقمي ومرورًا بإدمان استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والتعلق الشديد بالشبكة العنكبوتية (الإنترنت) إلى سطوة العولمة بمنتجاتها الأكثر طلبًا كسلع ثقافية حولنا، إلا أن هنالك ثلة من هذا الجيل استطاعت أن تتفوق في مسيرتها الإبداعية القصصية وتثبت حضورها الأدبي، متجاوزة المفهوم السائد بكتابة القصة القصيرة الآن بين أقرانها من القصاصين الشباب، ورسمت لها خطًا مُستقيمًا لامعًا كالنجوم في سماء الفن القصصي المحلي يُشير منذ البداية كسهمٍ وامض نحو النجاح الذي ما زالت فئة كبيرة منهم مُثابرة على تحقيقه أكثر، وعاضة عليه بالنواجذ أكثر وأكثر.
ومن أشهر هذه الأسماء المتلألئة إبداعًا في هذا الجيل الحالي، نذكر هنا: سعود السنعوسي، وميس العثمان، وبثينة العيسى، وعبدالله البصيص، وحياة الياقوت، واستبرق أحمد، وحميدي حمود المطيري، ومي الشراد، وعبد العزيز مال الله، وأنوار التنيب، وفهد القعود.
الثقافة تنتقل إلى المنازل
والمقاهي في الكويت
وحول تمدد الثقافة ووصولها (المقاهي والصالونات)، إِذ لم يستقر هذا الحراك الحضاري معتمدًا فقط على ما تنتجه وتقدمه المؤسسات الرسمية إنما تمدد وصنع مناخاته وعوالمه الإبداعية في كل الاتجاهات خارجها. فشكلت الكويت إحدى الظواهر العربية في هذا الجانب. نتيجة تسارع حركتها الأدبية والثقافية وتأثيرها التصاعدي الطردي بين النخب والمتلقين. ووصف الروائي والإعلامي «عدنان فرزات» هذه الممارسة الحضارية في الكويت بارتداء ثوب الحياة بكل ما فيها، وقال: حين تخرج الثقافة إلى الشارع، فإنها ترتدي ثوب الحياة بكل ما فيها من تلقائية وشيء من الانعتاق. لكون كثير من المثقفين عبر الأزمان كان يفضل ثقافة المقاهي على الثقافة الرسمية التي تؤديها المؤسسات الرسمية، بل إن ثقافة المقاهي أنتجت أدبًا موازيًا لما يمكن أن تتبناه الجهات الثقافية الرسمية، لذلك حققت ثقافة المقاهي انتشارًا شعبيًا في عدد من دول العالم، وكذلك في بعض أقطار الوطن العربي التي تجد فيها المقاهي الخاصة بتجمع أعداد من الأدباء والمثقفين. وفي الكويت خرجت الثقافة من معطفها الرسمي نحو المنازل، فأصبحت هناك المنتديات أو الصالونات المنزلية التي يدعو إليها أصحابها شريحة من المثقفين غالبًا ما يكونون متجانسين في الأفكار.
طاولات المقاهي تشهد حضورهم
وأضاف: المقاهي الثقافية التقليدية يلتقي فيها الأدباء بشكل شبه يومي وربما أن كل أديب أو مثقف له طاولته الخاصة به ومجموعته التي يلتقي معها دائمًا. أما المقاهي الثقافية في الكويت، فهي غالبًا ما تكون أسبوعية أو شهرية، أي أن الأدباء والمثقفين والمهتمين بالقراءة أصبحوا يحجزون ركنًا في المقهى أو المقهى بكامله حين يكون النقاش مهمًا حول كتاب أو موضوع ثقافي. لكن السؤال كيف بدأت رحلة المقاهي الثقافية الحديثة في الكويت، وكيف «هاجر» عديد من المثقفين عبر بوابات المؤسسات الثقافية الرسمية إلى أماكن أخرى كالمقاهي والمنازل، التي لا تخضع لمعايير صارمة.
وتابع «فرزات» بعد طرحه لهذا التساؤل موضحًا الدواعي والأسباب التي أدت بمثقفي وأدباء الكويت لارتياد هذه المقاهي والصالونات المنزلية وقال: هذه «الهجرة» ليست ناجمة عن تقصير من المؤسسات الثقافة الرسمية من حيث إفساح المجال للمثقفين في عقد الندوات أو إلقاء المحاضرات أو مناقشة الكتب، إِذ إن هناك جهات رسمية مثل «رابطة الأدباء الكويتيين» يتوفر لديها الأمكنة الملائمة للمثقفين، ولديهم ندوة أو محاضرة أسبوعية كل يوم أربعاء، وتقام جلسة أسبوعية خاصة لجيل الشباب كل يوم اثنين «منتدى المبدعين الجدد». إضافة إلى ما يوفره «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» من خدمات للمثقفين. لكن هناك في المقابل مجموعات كبيرة من المثقفين، وإن كان خرج بعضهم من تحت عباءة هذه المؤسسات، ارتأوا أن تكون لهم أماكنهم الخاصة، ونقاشاتهم البعيدة عن الإطار الرسمي، فاختاروا أولاً المنازل لعمل ملتقيات وجلسات ثقافية، وكانت الدكتورة الشيخة رشا الصباح سباقة في هذا المجال، إِذ كانت تعقد في منزلها ندوات أسبوعية، وكذلك فعل الأديب طالب الرفاعي مؤسس «الملتقى الثقافي» والشيخة أفراح الصباح مؤسسة منتدى «نادي البيجونفيليا للقراءة». وهناك الشيخة فضيلة الصباح، التي أطلقت على ملتقاها اسم «نادي اليرموك الثقافي». كما ظهرت ملتقيات أخرى مثل ملتقى سامي محمد، وملتقى كان يعقده الأديب إسماعيل فهد إسماعيل..وغيرها.
التمدد منح الحركة الثقافة
النشاط الأوفر
وزاد: أصبحت المقاهي مكانًا أنيقًا لملتقيات أخرى، مثل «نادي ديوان القراءة» الذي أسسه الشاعر يوسف خليفة، وملتقى «أوركيد» الذي أسسته الدكتورة إقبال العلي مع مجموعة من الأدباء أبرزهم الأديبة منى الشافعي، و»نادي المعاني للقراءة» الذي أسسته الإعلامية فاطمة النهام وأندية أخرى مثل النادي الذي أسسته الناشطة الثقافية نجود الحساوي. كما أدركت بعض المقاهي أهمية هذه الملتقيات، فقامت بإضافة مكتبات ضخمة إلى المقهى تحتوي مئات الكتب من مختلف الأجناس الأدبية والفكرية والتنمية البشرية. ومع ذلك ظلت بعض المؤسسات الرسمية تحتفظ بنواديها ومنتدياتها الثقافية، ففي رابطة الأدباء الكويتيين «المبدعين الجدد» ظل هذا المنتدى محافظًا على وجوده إِذ يضم الأدباء الشباب فقط يستعرضون نتاجاتهم الأدبية ويناقشونها فيما بينهم، ولم يلغ أحدهم الآخر. بل إن هذا التمدد الثقافي في داخل المؤسسات الرسمية وخارجها، منح الحركة الثقافية في الكويت نشاطًا كبيرًا، وحقق التنوع بين شرائح المثقفين.