د. إبراهيم بن محمد الشتوي
أخذ ميشيل فوكو في دراسته للنصوص غير الأدبية أو «المتكلفة» - إن صح التعبير- مظهر تأثيرها على جماهير المتلقين، فاستنبط منها نظريته في السلطة، فكانت قيمة هذه النصوص لديه في تأثيرها على الوعي خاصة في سيرورتها وانتشارها.
وهذه النصوص تقابل بالنصوص الأدبية الرسمية من داخل الأجناس الأدبية المعروفة: (الشعر، الرواية، القصة، الخطبة، الرسالة، المقالة). وهي أجناس أدبية تلقى عناية فائقة من قبل الجماعة المخاطبين بها (المجتمع) من أعلى مستوى فيها (الخلفاء، الوجهاء، العلماء)، ولذا فهي فنون رسمية، وتستمد قوتها الأدبية من موقف المؤسسة الرسمية الاجتماعية منها بناءً على أهمية الناس الذين يعنون بها.
وقد كان القدماء يهتمون بالقص كما يهتمون بالشعر والكتابة والخطابة، «فالقصاص»، وهم جماعة من المتحدثين يتولون القص على الناس في المساجد، ويتولون هذا العمل من قبل الخليفة أو من يقوم مقامه، ما يجعلها وظيفة رسمية، ويجعل هذا الجنس معتمداً صحيحاً.
وقد قام العلماء بعد ذلك بالعناية بهذه الأخبار والنصوص المسرودة عن أناس ذي حظوة في الخلافة، وعند أهل السلطان، فظهرت في كتب أبي عثمان الجاحظ، والمبرد، وابن قتيبة وسواهم. بل إن ياقوتاً الحموي في معجم الأدباء عقد فصلاً سماه «علم الأخبار»، وافتتحه بمقدمة أورد فيها طرفاً من أقوال تسند إلى معاوية بن أبي سفيان في فضل هذا العلم، وبيان قيمته.
وقد اندرجت هذه الأقاويل فيما توارثه العلماء، والنقاد فيما بعد في حديثهم عن «البيان» و»البلاغة» و»الفصاحة»، واعتبرت من الأمثلة التي ينطلق منها الناقد أو يقيس عليها المتكلم ما يريد أن يقول، ولذا فقد أصبحت جزءاً من تكوين البلاغة العربية والنقد، ومكونات الوعي الجمالي العربي، تتماهى مع الذوق الرسمي السلطاني وتعبر عنه.
إلا أن هذه القصص والأخبار ليست جميعاً مما يندرج في هذه الكتب العلمية، مما يوصف بدواوين البلاغة، ولا كل هذه الأخبار مما يسند إلى الجماعة الأولى في المجتمع، وإنما هناك أخبار أخرى وقصص لا تُدون بتلك الدواوين، ولا تسند إلى تلك الفئة، وتوصف أحياناً في بعض الدوائر العلمية «بالأدب الشعبي» أو «السرد والقصص الشعبي»، ويختلف الباحثون في تعريفها؛ فمن قائل إنها مكتوبة بلهجة عامية، ليست هي اللهجة الرسمية، ومن قائل هي ما لا يعرف مؤلفه الأول دارت بين الناس يضيف كل قوم منهم ما يضيفه، ويحذف ما يحذف إلى أن اكتملت صورته الظاهرة، فهو من إنشاء الشعب.
وأياً ما يكن تعريفه، فإن الجانب المميز لهذا اللون من الأدب أنه يتحرك في فضاء بعيد عن الأدب الرسمي، حيث بسطاء الناس وعوامهم، يتردد بينهم، ويتضمن همومهم، ويعبر بلغتهم، وينضح عن أفكارهم، ويمثل خيالاتهم. إنه أدب العامة في الأسواق، والنساء في المنازل، والصبيان في الملاعب والفلاحين حين يعودون من الحقول، يجتمعون للسمر والسهر، فيملؤون به مجالسهم، ويؤانسون به أصحابهم، ثم يرددونها في ذاكرتهم تتوارثها أجيالهم وسيتخلصون منها حكمتهم التي يعيشون فيها.
وهذا يعني أن هذه النصوص على اختلاف أجناسها أصبحت واقعاً نصياً ملموساً، لها فضاؤها الاجتماعي الذي تتحرك فيه، وتنتمي إليه، وليست صورة معدلة عن نصوص أخرى أكثر ازدهاراً وكمالاً، أو صورة مشوهة عنها، تفتقد قيمتها بناء على بعدها من تلك النصوص، وتعبر عن درجة ثانية من الثقافة، وأنها - النصوص - قد استطاعت أن تفرض نفسها على المتلقين بالتأثير فيهم، وجذب عنايتهم، والتغلغل في كياناتهم وحيواتهم، مثل سائر الآداب، وهذا هو الشرط الثاني لكل قول يوصف بالأدب ويعنى به.
وبناء على اختلاف الفضاء الذي يتحرك فيه هذا الأدب، واختلاف مواضعاته، وأسلوب معيشة هذا الفضاء، اختلف تكوينه، واختلفت الأدوات التي تؤدي ما به من تأثير، كما اختلفت أيضاً موضوعاته والقضايا التي يعالجها والقيم التي ينشرها عن الآداب الأخرى المدونة عند القدماء والتي يمكن أن توصف بلغة النقد الحديث أنها آداب «كلاسيكية». والكلاسيكية هنا مأخوذة من معنى كلمة « Class» وهي الطبقة، بمعنى أنها تعبر عن طبقة معينة ذات اهتمامات محددة وذوق معين، ولأن البلاغة العربية قد استمدت من تلك النصوص، وجعلتها أمثلتها والنماذج العليا لها، فإنها في الحقيقة تنتمي إليها وتعبر عنها، أي عن النصوص الكلاسيكية، ولا تعبر عن النصوص الأخرى الشعبية، ما يعني في الوقت نفسه أنها (النصوص الشعبية) تتضمن بلاغيات أخرى مغايرة للبلاغيات الكلاسيكية تعبر عن ذوق الفئة التي تبنت تلك النصوص لأول مرة، وتأثرت بها ومنحتها حيزاً للوجود، وهي فئة المهمشين من الناس، ولذا فهي تعبِّر عن بلاغة المهمشين.