د عبدالله بن أحمد الفيفي
لا شكّ في أن نشأة الفنون وتاريخها أمران شائكان، وظنِّيَّان، وليست هنالك وثائق تثبتهما. غير أن ارتباط فنّ الشِّعر بالكلمة يرجِّح أقدميَّته على سائر الفنون. ولنا في رحلة الإنسان الفرديَّة دليل؛ فالطفل يبدأ بالمناغاة وتعلُّم الكلام والطَّرَب للصوت، ويبدأ حِسَّه السمعي بالتلقِّي قبل الحواسّ الأخرى، حتى قيل إن الجنين يُحِسّ صوت أُمِّه، ويَطرب لإيقاع قلبها. وكانت اللغة لابن آدم مفتاح المخيِّلة الإنسانيَّة الأوَّل. والصوت آلةُ الإنسان، التي لا تحتاج إلى آلةٍ ولا تكلُّف أداة. حتى إن النصوص الأرقى والكُتب الأسمى، منذ عُرِفت، جاءت متلبِّسة بالشِّعريَّة وبالموسيقى. فالتبس بعضها: أشِعرٌ هو أم نثر، أم ما هو؟ وهو بطبيعة الحال ليس بشِعر من حيث الجنس الأدبي، لكنه يوظِّف الطاقة الشِّعريَّة، للتأثير النفسي، الذي هو ضربٌ من السِّحر البياني والموسيقي، وللتأثير الجماهيري. وفي العصر الحديث كذلك التبستْ شِعريَّة النصّ المموسق على الذين لا يفرِّقون بين الأجناس الأدبيَّة، ولا بين شِعريَّة الشِّعر وشِعريَّة النثر، حتى لقد عَرفتْ قصيدةُ النثر مَن يؤصِّل لها في التراث، بل مَن حاكَى بعض نصوصه في قصيدة نثره.
إن الشِّعر أقرب الفنون إلى نفس الإنسان؛ لأن اللغة أنفاس الإنسان، والصوت آلته الفنيَّة الأُولى، كطائرٍ بَشريٍّ مُغرِّد؛ ولذلك فإن الأصل في الشِّعر أنه فنٌّ فِطريٌّ، لا يتطلَّب عِلْمًا، ولا فلسفة، ولا صناعة، ولا أكثر من الاستعداد اللغوي الفِطري والموهبة. بخلاف الفنون الأخرى التي لا بُدّ لها من ثقافةٍ خاصَّة، ودُربةٍ، وتفاعلٍ اجتماعيٍّ، بقدرٍ أو بآخر. إنها صناعاتٌ فنِّـيَّة متقدِّمة، ظهرت بتطوُّر الإنسان وحضور الآلة ونشوء المجتمعات، بخلاف الكلمة الشِّعريَّة. وبرزت تلك الفنون في بعض المجتمعات دون بعض، وفي حقبٍ دون أخرى، ولكن ليس هناك مجتمعٌ بشريٌّ في أيّ زمانٍ ومكانٍ لم يكن له شِعر. ربما كان فنّ الرسم قد بدأ في مرحلة لاحقةٍ كثيرًا بعد الشِّعر، فبدأ بدائيًّا جدًّا مع سُكنى الإنسان الكهوف، والرسم على الجدران، ثمَّ منه انبثقت فنون الكتابة، من مقطعيَّة إلى تصويريَّة إلى أبجديَّة، في الألف الثاني قبل الميلاد.
من هذه المنطلقات يبدو التعبير الصوتي أقدم، بطبيعة الحال، والتعبير الصوتي ملازم للكائنات الحيَّة كافَّة. بحيث لا يُتَصَوَّر أن الإنسان الأوَّل، في أوَّل وجوده على هذا الوكب، كان يرسم، مثلًا، أو يخطب، أو يحكي حكاية، أو يزاول فنًّا آخر كهذه الفنون، لكنه قطعًا كان يعبِّر بالغناء، فرحًا أو ترحًا، ويُفضي عمَّا في نفسه بلُغة. وقد كانت لغة الإنسان تؤهِّله لذلك، كما أهلته للحوار الكوني، في قضايا الوجود والمصير، والحقّ والباطل. وهذا ما ميَّزه عن سائر المخلوقات.
ومن هنا فلا خلاف في أن اللغة هي أوّل مكتسبٍ معرفيٍّ للإنسان. وبما أنها كذلك، فإنها أداة العقل والتخيُّل والفنّ، وكلّ اللغات الفنيَّة الأخرى ثانويَّة ولاحقة ورامزة، وإنما وقع الجدل منذ القِدَم في أيّهما أسبق: الشِّعر أم النثر؟ النثر: بمعنى التعبير الفنّي النثري، غير المنظوم في قوالب موسيقيَّة. بَيْدَ أن الفِطرة الطبيعيَّة، وسُنن الله في خلقه، تدلَّاننا على أن الشِّعر، بأُفهومه العامّ، أسبق من النثر الأدبي؛ من حيث حاجة الإنسان للإرواء الصوتي، والموسيقي، وللبثّ الروحي، لا الفكري، وللتأثير الإيحائي، لا العِلْمي.
بناءً على ما سبق، فإن الفنون اللغويَّة، وبخاصة الشِّعر، بوسعها أن تكون معاول بناءٍ أو هدمٍ للإنسان، أكثر من غيرها من الفنون.