محمد آل الشيخ
قبل ما سُمي بالربيع العربي، كان أغلب المثقفين العرب بمختلف توجهاتهم، يدعون إلى الديمقراطية، على اعتبار أنها الحل الأمثل لإنقاذ الإِنسان العربي من الجهل والتخلف والانحطاط كما كانوا يقولون.
تجربة الربيع العربي نبّهت الشعوب العربية، بمن فيهم المثقفون، إلى أن القفز إلى الديمقراطية، دون أن يؤمن الفرد أولاً بمفاهيم ومبادئ وقناعات معينة وضرورية، فإن هذه الديمقراطية ستكون سببًا لتدمير الإِنسان والأوطان تدميرًا كاملاً، هذا إذا لم يختفِ الوطن أو يتفكك، وينتقل إلى خبر كان.
وأنا لا يمكن أن أكون ضد الديمقراطية، فهي تجربة سياسية جُربت، وآتت أكلها، والتجربة -كما يقولون- خير برهان. إلا أن تلك التجربة كان هناك أسباب موضوعية وبنيوية إذا انفصلت عنها فستكون هذه التجربة كارثية وليست فاشلة فقط. لذلك يجب أن نبدأ بهذه الأسس المعرفية أولاً، ولا نفرضها من الأعلى أو بقوة خارجية، ما دام القاعدة الشعبية تئن من ثقافات وعادات وتقاليد وموروثات كفيلة بأن تجعل المواطن العادي يعض أصابع الندم إذا كان مشاركًا في المطالبة بهذه الديمقراطية.
الشرط الأول هو (العلمانية)، التي تُساوي بين أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو عرقه، كما هي مطبقة في الغرب وبعض البلدان الشرقية. ويحضرني هنا بالمناسبة قول للمفكر العراقي الشهير «علي الوردي» يقول فيه: (العرب يصوتون للدولة الدينية في أوطانهم ويهربون ليعيشوا في الدول العلمانية في الغرب).
الشرط الثاني ترسيخ الفردانية، بحيث يكون انتماء الفرد ليس لدين ولا مذهب ولا قبيلة ولا عرق.
ولا أعتقد أن إِنسانًا موضوعيًا ينأى بنفسه عن المغالطة يختلف مع مثل هذا الأساس كشرط ضرورة لا غنى عنه لإنجاح أية تجربة ديمقراطية.
إيران المتأسلمة -مثلاً- بعد ثورة الخميني أدق مثال لما أقول؛ فقد أسقطت الجماهير الإيرانية شاه إيران، وقفز الملالي إلى السلطة، وأسسوا دستورًا دكتاتوريًا أعطى لرجال الدين الأولوية المطلقة في الحكم، فأخذوا بيد البلد إلى دولة دينية استبدادية كارثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وعندما حاول الإيرانيون الاحتجاج على الانتخابات الصورية المزورة في عام 2009 واجههم حرس الملالي الثوري بأيد فولاذية، ولا يبدو أن هناك أية مؤشرات تشير إلى أن بإمكانهم التخلص منهم، وإقامة دولة مدنية، في المستقبل المنظور، هذا مع أن الإيرانيين يمارسون شكلاً من الانتخابات الصورية، التي لا يملك من يفوزون بها أي سلطة حقيقية، فالسطة النهائية بكاملها في يد (الولي الفقيه)، الذي يبقى في منصبه مدى الحياة، ولا يُسأل عما يفعل أو يقرر؛ وهذه -بالمناسبة- أفضل رد على من يقول دع الشعب يجرب، وهو الذي سيتولى التصحيح إذا شعر بأن هناك تجاوزات؛ الإيرانيون بكل طوائفهم وإثنياتهم يريدون الآن التخلص من الملالي وحكمهم الذي مضى عليه اليوم أربعون سنة، ولم يستطيعوا تغييره. العراق -أيضًا- تجربة أخرى، أسقط الأمريكيون صدام، وجاؤوا بشكل ديمقراطي، لا يمت للدولة العلمانية المدنية بصلة، فهل حققت تجربة العراق للإِنسان العراقي ما يصبو إليه من حرية ومساواة وعدالة اجتماعية؟
دول الخليج -مثلاً- لا تعرف دولها الديمقراطية، ولم تدعيها، ومع ذلك حققت على مستوى التنمية بمعناها الشامل، ما لم تحققه لا إيران ولا العراق ولا لبنان، ناهيك عن الأمن المستتب، والطمأنينة التي يحظى بها الإِنسان في تلك البلدان دون ديمقراطية.
جماعة الإخوان حاولت بميكافلية لا تخفى على الحصيف أن تزاوج بين العلمانية وبين شعاراتها المتأسلمة إبان حكمهم فلم تستطع، بل كادت أن تخرج بمصر من التاريخ. فالعرب عمومًا، يريدون ديمقراطية لكنهم يعتبرون العلمانية رجسًا من عمل الشيطان؛ أي بالمختصر المفيد يريدون أن يكرروا تجربة الملالي في إيران.
وعلى أية حال فإن أي ديمقراطية لا تبدأ من الإِنسان وتوعيته، وتقفز إلى التغيير من الأعلى فإن مصيرها حتمًا للفشل.
إلى اللقاء..