د. حمزة السالم
الاقتصاد الحديث ابن الغرب. والغرب قد تجاوز معظمه مرحلة العقائد الاشتراكية والاقطاعية. فما عاد مفكروه يكترثون لتفنيد مبادئ الاشتراكية أو الاقطاعية أو يحتاجون لتوضيح مفهوم الرأسمالية الحديث، فأهملوا التنظيرات القديمة في انطلاقتهم وراء تطوير النماذج الرياضية والإحصائية.
وفي الواقع، فإن هذا التوجه الاقتصادي المعتمد كليا على الرياضيات، قد سبب غلبة التخصصات الدقيقة على علوم الاقتصاديين، مما أحدث هذا ضياعا لفهم المفاهيم الاقتصادية الأساسية التنظيرية عند النخب الاقتصادية، فضلا عن عامة الناس.
ومشاكل الاقتصاد الكبرى المستعصية، متشابكة في أصولها وفروعها. والفهم العميق لهذه المشاكل، لا يمكن تحقيقه ما لم يفهمه الوسط الاقتصادي في السوق، وكذلك يكون عند عموم الناس تصور عام عن كل هذه المفاهيم، لينظروا بنظرة كلية لأي معضلة اقتصادية.
فأصعب الفهم، فهم عقل قد سبق إليه تصور سابق مخالف. والفكر الإبداعي والاختراعات، وإن كانت تُنسب لشخص واحد، إلا أنها في الواقع نتيجة لأفكار المجتمع من حوله، استطاع هذا المفكر أو المخترع الربط بينها، ثم وجد لها سوقا عندما طرحها. فأثر غياب السوق، كأثر غياب العلماء، ينتج عن بقاء الكل في الجهل.
وكلمة الاقتصاد تحمل معنى واسعا، يشمل نظام الإنتاج وشكل الإنتاج كما يتضمن نوع السوق ومدى تدخل الدولة فيه. كما يشمل النظام السياسي والنظام الاجتماعي. فما يتعلق بالإنسان يتعلق بالاقتصاد، فالمنتج هو الإنسان، والإنتاج للإنسان.
فالاقتصاد إذا أطلق، فيدل دلالة واسعة تشمل السياسة والنظام الاقتصادي وشكل الإنتاج ونوع السوق.
والنظام الاقتصادي نوعان نظام اقطاعي ونظام رأسمالي، تتفرع منها أنظمة شتى.
فأقصى طرف الاقطاعية هو النظام الاشتراكي، بامتلاك الدولة كل شيء، وتحكمها في كل أنشطة الاقتصاد. وأقصى طرف الرأسمالية ما عاشه الاقتصاد الأمريكي حينا من الزمن، من بعد حرب التحرير إلى الحرب الأهلية، حيث لم تكن هناك ضرائب، إلا بعض الرسوم، لتمويل حاجيات الحرب والحكومة.
وشكل الإنتاج شكلان: إنتاج دخلي أو تأجيري، وإنتاج صناعي. فالإنتاج الدخلي/التأجيري كالزراعة والسياحة، هو الإنتاج القائم على إنتاج يَتجدد إنتاجه سنويا أو فصليا، أو شهريا، إلا هذا الإنتاج المتجدد محدود الكمية والنوعية، لا يمكن زيادته ولا تطويره بشكل متواصل -ما لم تدخله صناعة-. وهناك شكل إنتاج ثالث، لا يرقى أن يُعد شكلا ثالثا، وهو الإنتاج الاستهلاكي لأصل الثروة، كإنتاج النفط والموارد الطبيعية الأخرى.
وأما السوق فسوق حرة، وسوق غير حرة. والحرة هي التي لا تتدخل فيها الحكومة بفرض الضرائب أو منح إعانات أو وضع رسوم أو سقف إنتاج أو استيراد أو تصدير، أو منح أحقيات أو تميزات، وكل ما يؤثر على انحراف سعر توازن السوق عن محله الحقيقي.
والاقتصاد لا يشكل النظام السياسي فقط، بل قد يشكِّل حتى طريقة تفكير المجتمعات. ألا ترى أثر المسكنة والخضوع والسطاحة الفكرية في المجتمعات الزراعية، كنتيجة تبعية المجتمع الزراعي في فكره لنتاج الأرض، مع استغلالها لجسده. وترى أنه كلما كان الإنتاج مستقل الفكر، كلما زادت مقدرته على فرض هيمنته على الغير.