نشأ في ذاكرتنا البعيدة والحديثة أيضًا أن التمدن هو مَعْلم من معالم التحضر، وأقصد هنا بالتمدن عمارة الأرض المادية إن صح التعبير، ودلالة وجودها في كل مجتمع هو ما وصل إليه ذلك المجتمع من ناطحات السحب وبنايات شاهقة.
وهذا المفهوم في ظني قد شابه الكثير من الخطأ ولو كان صحيحًا أن العقول التي قامت بصناعة هذا البنيان قد سبقت غيرها في الإبداع؛ وبالتالي خلقت اختلافًا «مدنيًّا» لا يشبه غيره من العقول التي فشلت في الوصول إليه.
وأعتقد أن مفهوم الحضارة يختلف تمامًا عن المدنية العمرانية؛ فالمدنية هي ما أشرت لها سابقًا، أما التحضر فهو من جانب طريقة التعامل مع هذه المدنية، ومن جانب آخر طريقة تحقيق التوازن الإنساني، وتحقيق العدالة الاجتماعية التي تمنح الإنسان مهما كانت مرتبته وحظه من قسمة المدنية حياة كريمة، وتحقق له الحد الأدنى من مفهوم التحضر. فقد نجد شعوبًا عمرت الأرض ماديًّا، ولكنها تخلفت في جانبها الحضاري، ولم تمنح ذلك الإنسان أي مستوى من الحياة المتحضرة، بل إن بعضها لم تمنحه حقه في الوجود أيضًا. وعلى النقيض؛ فقد نجد بعض الشعوب التي تخلفت ماديًّا قد نجحت حضاريًّا في تفعيل دور الإنسان، ومنحه حقه في الحياة دون أن تطالبه بأن يتماشى مع شروط المدنية القاسية.
وهنا يطرأ سؤال: كيف يتحقق التحضر لدى الشعوب؟ وما هي مؤشراته الفعلية؟ أعتقد أنه مع وجود المدنية الصارخة في هذه المرحلة فليس للتذكير والموعظة أي تأثير ملموس.. والشواهد كثيرة على ذلك، ويتحقق وجودها بسَنْ أنظمة صارمة ذات سياسات استراتيجية بعيدة المدى والجدية في تحقيقها؛ فالقانون يكون جيدًا على الورق لكنه لا يحقق أهدافه إلا بخلق سياسات تنفيذية، وصرامة «استبدادية» لتطبيقه.
أخيرًا، أرجو أن لا يكون سجع العنوان قد أثر في المحتوى «المتحضر»، وأن لا يعامل معاملة المدنية القاسية في مشهدها الحاضر حيث أفقدت الإنسان إنسانيته، وحوَّلته إلى آلة مادية، لا تبحث إلا عما يروي عطشها للتقدم دون الالتفات إلى صناعة الإنسان الذي هو أساس هذه المدنية، ويضفي عليها شيئًا من «القداسة» والروحانية.
** ** **
- خليل الذيابي