تحقيق - محمد المرزوقي:
في واحدة من الحالات القرائية التي يتقمص أصحابها دور الناقد، ويتخذون من النقد مسلكا للثناء والإطراء ما ظلوا بيننا في مشهدنا المحلي، إلا أنهم سرعان ما يتنكرون لما قدموه من دراسات للمنجز الأدبي نفسه، في قراءات يناقض بعضها بعضا! فمتى ما عادوا إلى أوطانهم، أو ترجلوا إلى قطر آخر، انتقلوا إلى ضفة مضادة، للتنكر للأدب السعودي، ولما يحفل به من حضور عربي، وريادة تمكنت من صدارة المشهد العربي الأدبي، في فنون الشعر، أو أجناس السرد، ما جعل من «المجلة الثقافية» تستطلع هذه الظاهرة بعيون ثقافية سعودية!
أصحاب أهواء!
الناقد والروائي الدكتور سلطان القحطاني، استهل حديثه عن هذه الظاهرة قائلا: بداية لا يمكن أن أسمي هؤلاء بأنهم ناقد، بل هم أصحاب أهواء وأغراض، ومصالح شخصية، كانوا يسايرون به أوضاعا معينة، وهم تماما يذكروننا بهذه الممارسات الكتابية بنظرية الفيزيائية التي تزول بزوال المؤثر، فكما يلاحظ المتابع لهذه الظاهرة، أن أولئك متى ما انتهت المؤثرات والأهداف التي تقف خلف توجهاتهم، انتقلوا إلى طرف نقيض، مناقضين أنفسهم حتما، ما يجعلني أنفي عنهم صفة النقد، لأن من يعرف النقد يؤمن بأن الناقد لا يمكن أن يناقض نفسه تجاه العمل (الواحد) الذي قام بدراسته، لأننا نؤمن بأن النقد رسالة، وصاحب مبادئ أساسية راسخة، يؤمن بها، وتشكل منطلقات علمية لديه، ما يجعله صاحب حيادية موضوعية، وعلى درجة من العلمية النقدية، لا الذاتية المتناقضة على بعضها.
موجات عابرة!
ومضى القحطاني قائلا: هذه الشريحة مما تمسحوا بالنقد، لفترة من الزمن، لسبب أو لآخر، وإن كانوا لم يكونوا مجبرين على تقديم ما أقدموا عليه، ما يجعلنا نقول: «ليتهم سكتوا»، لولا وجود ما يسعون إليه، من (الطرق في حديد بارد)، ليس لهم تأثير في الواقع في مدح أو ذم، بينما نجد في المقابل مما أسهم معنا من نقاد (حقيقيون) من دول عربية مختلفة، شاركوا وأسهموا معنا في الحياة الثقافية، والمنجز النقدي، وعندما عادوا إلى بلدانهم، أو ترجلوا إلى بلدان أخرى، ظلوا بما عهدناهم عليه، من أستاذتنا ومن زملاء الوظيفة وأصدقاء الحرف، ظلوا بعد مغادرتهم أوفياء للمشهد الثقافي في المملكة، ولم ينتقضوا على أنفسهم، بل أن بعض ممن عرفت من النقاد الذين يشار إليهم بالبنان، الدكتور حسين المناصرة الذي وصف ما قدمه معنا في المشهد الثقافي بأنه يمثل زهرة حياته الثقافية، وأمثاله كثر من النقاد العرب.
لم ننشد مدحا!
من جانب آخر وصفت القاصة والشاعرة الدكتورة شيمة الشمري، ظاهرة النقد المزدوج، قائلة: هذه الظاهرة مما يلفت الانتاه إليها، أنها على طرفي نقيض من ناقد تجاه نقده للعمل الأدبي نفسه، سواء الشعري منها أو السردي، وسواء كان ذلك لنقد موجها لنص جيد، أو لآخر رديء، إذ إننا هنا لسنا أمام حالة من المناشدة بالإشادة، لمن شاركونا حراكنا الثقافي والأدبي في المملكة، فليس هذا المقصود، ولسنا أمام المواقف المتعددة من مجموعة من النقاد، أو من القراءات الانطباعية أو التذوقية من عمل أدبي ما، إذ إن الغالب سيدرج على وجود التباين من ناقد إلى آخر، لكننا أمام تلك الحالة (النقدية) من تناقض الناقد تجاه العمل الإبداعي، الذي جعل الناقد يقف منه موقفين متضادين! وهنا لا نستطيع أن نتجه إلى النص أو العمل الأدبي الذي تمت قراءته، أيا كان جنسه الإبداعي، وفنه الأدبي، وإنما تتجه أنظارنا إلى من قرأ أو نقد هذا العمل، للتعرف على تحوله من حالة إلى نقيضها.
باتجاه الناقد!
وفي سياق توصيف هذه الظاهرة قالت شيمة: ربما لا نكون حالة استثنائية من هذه الظاهرة في مشهدنا العربي، وخاصة في ظل النقد الثقافي الذي شاعت مدارسه اليوم، إلا أن ظاهرة تناقض الناقد، من حال إلى حالة مضادة أخرى، يبعث على وصف ما قدموه بالمجاملة، والمداهنة لسبب أو لآخر، أو ما قد يصحب ظرف إحدى القراءات من النفعية أيا كان دافعها من حب ظهور وشهرة وبحث عن هدف يخص الناقد، جعله يقدم على التناقض، ما يلفت النظر إلى طبيعة الموقف والظرف الذي يكشف لنا بداهة عن العديد من الدوافع التي تنحصر في الشخص الذي قدّم ذلك التناقض، لا العمل الأدبي، ولا حالات تلقيه من قارئ إلى أخر، وأيا كان خدمة النص الإبداعي في الحالة الأولى أو الثانية، التي لا يمكن أن تخلو منها الحالتين بين نسبة وتناسب، إلا أننا أيضا لا يمكن التسليم بصحة القراءتين في آن واحد،.
لم التناقض؟!
أما الشاعرة الدكتورة مها العتيبي، فقد وصفت هذه الظاهرة النقدية، بأنها شكل من أشكال التقلبات البحثية، التي أوجدت حالات متناقضة من العمل الأدبي أيا كان فنه، مشيرة إلى وجود فئة شكلوا بكتاباتهم هذه الظاهرة، قائلة: وجدنا من كان بيننا في مشهدنا الثقافي مشيدا بأدبنا السعودي، الشعري منه والسردي، الذي كان خلال وجوده معنا في المشهد الثقافي المحلي، يقوم بدراسات مختلفة لأدبنا السعودي، مشيدا بهذه ومنتقدا تلك التجربة، أو مستعرضا أوجه القصور فيما وجد به نقصا، كالتجارب الأولى الإبداعية، وهذا لا ضير فيه، إلا أن الذين تنكروا (تناقضا)، لما سبق وأن أثنوا عليه من أعمال أدبية، يجعلنا نعيد السبب إلى الشخص «نفسه»، للبحث عن سبب موقفه المتناقض من العمل الأدبي ذاته.
كتابة نفعية!
ومضت مها، في توصيف هذه الظاهرة، مشيرة إلى أن الأسباب لا يمكن أن نعيدها إلى المنتج الأدبي الذي تمت دراسته، وإنما تتجه تساؤلاتنا إلى أسباب تغير وجهة النظر وتباينها، ما يجعلنا أمام السؤال الأول (منطقيا)، هل ما قام به كان نقدا؟ وهل ذلك أو تلك من يصدق عليهم وصفنا لهم بنقّاد؟! مردفة العتيبي، قولها: هنا لا يمكن إغفال أسباب أخرى، يأتي منها على سبيل المثال لا الحصر، هل كانت القراءة الأولى من قبيل المجاملة في ظرف معين؟ هل كانت القراءة مدفوعة الثمن، بمعنى مقابل مادي من قبل المؤلف؟ أو الناشر؟ ما يجعلنا أمام الناتج الذي يوصلنا هذا النوع من النقد إليه، الذي يغلب عليه الهدم لا البناء، حتى وأن سلمنا بأنه لم يخل في الحالة الأولى، أو في ضدها من بعض الصحة، مؤكدة مها في ختام حديثها عن انتقاض النقاد على أنفسهم تجاه المنجز الأدبي (الواحد) قائلة: لا يمكن لنا وصف هذه الظاهرة بالنقد، نظرا لما يتبعها لدى القارئ والكاتب من (شك) تجاه ناقد يشيد بالنص الإبداعي وفقا لرؤية هنا، ثم ينتقض من موقع آخر على النص نفسه! ما يفقد هذه النوع من الكتابة وزنها، وقيمتها، ويجعلها تمضي إلى النسيان، فلا غرابة إن سمعنا من أمثال هؤلاء مقولات تبونها، كالقول بعدم نضج التجربة الروائية السعودية؛ وأخرى بأن شعر المرأة السعودية بعيدا عن صدارة المشهد الشعري العربي، وغيرها من مقولات تعمم دون قراءة (حقيقية) لمنجزنا الأدبي؛ وتتناقض دون مبرر علمي نقدي.
غياب مؤسسي!
أما عن الحلول المقترحة لكشف هذه الموجة، وأشباهها من الموجات التي تظهر ما بين حين وآخر، في مشهدنا الثقافي المحلي، فقد راهن الدكتور سلطان القحطاني على وعي القارئ السعودي، مؤكدا في الوقت نفسه على أن دور المؤسسات الثقافية، أول ما يلفت إليها النظر، للقيام بدورها تجاه كل ما يخدم مشهدنا الثقافي، قائلا: المؤسسة الثقافية هي وجه العملة الأخرى، لتعرية هذه الظاهرة وما سار على شاكلتها، وإن كان ليس لبعض تلك الظواهر التأثير، لأنها سرعان ما تنطفئ، ولكننا أيضا لنا أن نسأل: لدينا (16) ناديا أدبيا، ولا نكاد نعرف عددا منها إلا بالاسم! فيما نجد أخرى جادة وفي مقدمتها نادي جدة الأدبي الذي ما يزال نابضا عبر مناشطه وملتقياته بالحراك الثقافي، وفي المقابل نجد أندية تحظى بتفاعل مجتمعي كما هو الحال في نادي الأحساء، وما يقدمه أدبي الرياض من حين إلى آخر، وهناك أندية خبأ عطاؤها كنادي المنطقة الشرقية، ولنا أن نسأل أيضا: أين دور الأندية الأدبية الأشعاعية؟ وأين تأثيرها؟!